لا تكفي المعرفة وحدها لتكوين الناقد الجيد

 

Le savoir ne suffit Pas seul pour créer un bon critique 

 

نقد العمل الفني أو الأدبي هو تثمين له وتعريف بقيمته، وتسليط الضوء عليه لإبراز مزاياه وكشف عيوبه.

وكما يحتاج الخبير في الأعمال الفنية إلى معرفة تاريخ الفن ورواده واللوحات التي أبدعوها والألوان التي طبعت أعمال كل منهم  والقواعد التي اتبعوها في رسم لوحاتهم والتي تحدد المدارس التي ينتمون إليها والمذاهب السائدة في عصورهم ليستطيع التمييز بين اللوحة الأصيلة والزائفة والأصلية والمقلدة، كذلك يحتاج الناقد الأدبي إلى معرفة تاريخ الأدب، شعره ونثره، وطليعة الرواد في الشعر والمقالة والقصة والرواية والمسرحية وأهم أعمالهم وميزات أساليبهم، وأن يكون بالطبع مطلعا على المناهج النقدية القديمة والحديثة ليستطيع الحكم على أي نص إبداعي.

وكما تخدع اللوحات الزائفة والمقلدة المشاهد العادي فينبهر بها، كذلك يمكن أن ينخدع القارئ العادي بقصيدة أو رواية فينبهر بها، وهو لا يعلم أن أفكارها مسروقة من شاعر أو روائي آخر قد يكون بعيدا في الزمان أو المكان، ولا يعرف القارئ العادي عنه شيئا.

المعرفة إذاً ضرورية للناقد. ولكن هل تكفي وحدها لخلق الناقد الجيد؟ ولماذا نرى كثيرين ممن يمتلكون المعرفة ويمارسون النقد لا يفلحون فيه ولا يقنعون القارئ ولا الكاتب، إذ تأتي نصوصهم إما متحيزة لكاتب أو عقيدة أو مذهب، تفتقر إلى النزاهة والمصداقية. أو تكون نصوصهم النقدية غامضة مبهمة، لا تساعد القارئ في فهم النص الشعري أو الروائي وإلقاء الضوء عليه، بل هي التي تحتاج إلى من يلقي الضوء عليها ليفك رموزها ويفتح مغاليقها.

 المعرفة إذاً لا تكفي وحدها لتكوين الناقد الجيد بل لا بدّ أن تصاحبها صفتان أساسيتان هما الموضوعية والذوق الفني.

فأما الموضوعية فتقتضي أن يتمتع الناقد بالنزاهة أي أن يكون ذا ضمير أخلاقي فلا يرتشي ليمجد عملا أدبيا أو يحط من قيمة عمل آخر، ولا يصفي حساباته الشخصية مع الكتاب من خلال النقد فيهجوهم ويجرحهم. وهو لا يجامل أصدقاءه الأدباء إلا في حدود لا تضر بنزاهته ومصداقيته النقدية.

وتحتم الموضوعية على الناقد ألا يخلط بين تعصبه لعقيدته وبين أحكامه النقدية فيحكم على النص من خلال حبه أو كرهه لإيديولوجية الكاتب. كأن يكون الكاتب شيوعيا فيمتدح نصوص الكتاب الشيوعيين ويمجدها ويحط من قيمة نصوص الكتاب غير الشيوعيين. أو أن يكون الناقد ليبراليا مناوئا للشيوعية فيمجد أعمال الكتاب الليبراليين ويهاجم كل ما أبدعه الكتاب الشيوعيون ويعتبره مجرد دعاية سياسية لا علاقة له بالأدب. فهذان الناقدان يمجدان في النتيجة باسم الإيديولوجية أعمالا أدبية ضعيفة ويقصيان أعمالا أدبية رائعة.

وقد يكون الناقد متعصبا لمذهب من المذاهب الأدبية. كأن يكون متعصبا للحداثة فيقصي باسم الحداثة ما لا ينسجم مع مفهومه للشعر أو للرواية. وقد يكون متعصبا للقواعد الكلاسيكية فيقصي النصوص الشعرية الحديثة أو النصوص الروائية التجريبية التي لا تنسجم مع مذهبه.

فالناقد الموضوعي هو الذي يعي تماما أنْ ليس هناك إقصاء في الفن أو الأدب. ويؤمن بأن الأدب الجيد يفرض نفسه مهما كان نوعه وأسلوبه والمدرسة التي ينتمي إليها وأيا كانت إيديولوجية كاتبه، وبأن الأدب السيء يقصي نفسه لأنه لا ينتمي إلى الأدب أصلا. والناقد الموضوعي يدرك أن الحكم على النصوص الإبداعية هو في نهاية المطاف للقارئ الذي يقيّم على مر الزمن ما كتبه الكاتب فيحكم عليه بالخلود أو النسيان.

وأما الذوق الفني فهو صفة جوهرية للناقد إن لم يتمتع بها فلن تغنيه عنها معرفته وموضوعيته. ولا يستطيع من دونها إدراك مواطن الجمال والقبح في النصوص الإبداعية. والجمال والقبح ميزانه الأحاسيس لا المعرفة والموضوعية. هناك عين تنظر فلا ترى في المنظر الطبيعي شيئا خارقا، وهناك أذن تسمع فلا ترى في صوت البلبل لحنا رائعا. فالعين مجرد آلة للرؤية والأذن مجرد آلة للسمع. لكن الأحاسيس هي التي تجعل الفنان يرى ما لا يراه الناس ويسمع ما لا يسمعه الناس، فيبدع أعماله الأدبية، ويرى فيها الناقد بذوقه الأدبي ما لا يراه القارئ العادي من مواطن الجمال والقبح، وينقل ذلك إلى القارئ ببساطة وسهولة.

وتبدأ تربية الذوق الفني والأدبي في المنزل والمدرسة منذ الصغر بتربية الأحاسيس لإدراك مواطن الجمال في الأشكال والألوان والأصوات والروائح ثم في النصوص الأدبية. لكن الذوق الفني والأدبي موهبة فطرية كموهبة الكاتب يمكن اكتساب جزء منها بالتربية والتعلم، ولكن الجزء الأكبر منها منحة إلهية لا تتوفر لكل الناس. ولذلك نرى بعض النقاد ممن ليست لديهم هذه الموهبة الربانية لا يكيف منهجه النقدي حسب النص الشعري أو الروائي بل يحاول تطبيق منهجه تطبيقا آليا على كل النصوص الشعرية أو الروائية فيأتي نقده جامدا لا حياة فيه.

أما الناقد الموهوب فيدرك أن لكل نص ميزاته الأصيلة وخصوصيته فيفصل المنهج على مقاس النص. وقد تستعصي بعض النصوص الإبداعية الشعرية والروائية على المناهج كلها فيدرك الناقد الموهوب الحاجة إلى منهج جديد يمكنه احتواء هذه النصوص.

ولا يستغني الأدب عن النقد الجيد فهو الذي يساهم في تصحيح مساره، وينبه الكتاب إلى مناطق القوة والضعف في كتاباتهم، ويعين القراء على تذوق النصوص ورؤيتها بمنظار أوسع وأدق من منظارهم.

ويسعدني أن أفتح زاوية "آراء نقدية" في موقعي لأنشر فيها مساهمات النقاد شاكرا لهم تفضلهم بنقد أعمالي التعليمية والأدبية خدمة للأدب ولقراء العربية بوجه عام.