لا إعلام بلا ثقافة

Pas D'Information Sans Culture

 

لا يزدهر الإنتاج الثقافي إلا في مناخ اجتماعي وفكري وأدبي وفني مناسب. ويبدأ الإعداد لخلق هذا المناخ وتهيئته في المدرسة. صحيح أن إعداد المفكر والكاتب

والشاعر والروائي والرسام والنحات والموسيقي والرياضي من الأهمية بمكان لخلق هذا المناخ، لكن إعداد متذوقي الأدب والشعر والمسرح والرسم والنحت والموسيقى هو بنفس مستوى الأهمية. فالعطاء الثقافي يحتاج إلى جمهور يقرأ ويحضر ندوات الشعر ويرتاد المسرح ويستمع إلى الموسيقى ويزور أروقة المعارض الفنية ويهتم بالتظاهرات الرياضية. وما لم نُكوِّنْ هذا الجمهور ونربّي ذوقه في المدرسة، فلن تكون هناك نهضة ثقافية حقيقية. ويأتي بعد ذلك دور الإعلام وهو استمرار لدور المدرسة في تكوين ذائقة الجمهور، وخلق حراك ثقافي، وذلك بتقديم إنتاج الكتاب والشعراء والروائيين الوطنيين والعالميين. ودور الإعلام الثقافي لا يقتصر إذا على نشر روائع الأدب العالمي بل لا بد له من تقديم إنتاج كتاب وشعراء وروائيي الوطن وعدم الاكتفاء بالتعريف بهم، فوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية هي المنابر الطبيعية للثقافة، وهي صلة الوصل التي لا غنى عنها بين المبدعين والجماهير. وهكذا احتضنت الصحافة قديما الأدباء والمفكرين والشعراء ونشرت إنتاجهم قبل أن يجمع في الكتب. وتقدم قنوات التلفزة والإذاعة حاليا في البلدان المتقدمة وفي بعض البلدان العربية إنتاج مبدعيها في صورة أفلام سينمائية ومسرحيات ومسلسلات إذاعية وتلفزيونية. فما دور صحافتنا العزيزة وقنواتنا التلفزيونية في هذا المجال يا ترى؟

        كان الإعلام والثقافة يتقاسمان حيز الجريدة وبرامج الإذاعة في الماضي، فلما توسعت رقعة الإعلام بزيادة عدد الصحف وعدد قنوات الإذاعة والتلفزة، ضاق الحيز المخصص للثقافة فيها، واقتصر على أخبار الأنشطة الثقافية إن وجدت، وعلى بعض اللقاءات والمقابلات التي تعرف بالكتاب والشعراء دون أن تقدم إنتاجهم. لم تعد الإذاعة تنتج الأعمال الدرامية وتقلص إنتاج التلفزة في الدراما والأغنية لفسح المجال أمام الخواص ممن يقدمون أعمالا تجارية لا يمكن أن تنافس الأعمال العربية

فضلا عن الأجنبية. أما الصحف فأصبحت تأنف أن تنشر الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية المسلسلة، وبذلك تخلت عن دورها ومساهمتها الهامة في تطوير الأدب الجزائري وإنعاش الجو الثقافي.

        وهكذا يجد الكاتب الجزائري نفسه محاصرا بتعتيم إعلامي من كل جهة، لأن رسائله لا تصل إلى القارئ. النشر متعذر على معظم الكتاب، وحين يسرت وزارة الثقافة النشر ودعمته برزت مشكلة التوزيع، ثم مشكلة التعريف بالكتب التي تصدر. إن المنتوج الثقافي سلعة ككل السلع، ولا سلعة تروج دون إشهار، ودور النشر لا تعلن عن منشوراتها، ولا تتصل بالصحف وقنوات الإذاعة والتلفزة للتعريف بالكتب الصادرة. يضاف إلى كل ما سبق غياب النقد، فآراء النقاد ضرورية للكاتب ولا يمكن له أن يتطور من دونها لأنها المنارة التي يهتدي بنورها لمعرفة موقعه وتصحيح مساره.

لكل هذا بدأ بعض الكتاب والشعراء يتساءلون: لمن نكتب؟ ولماذا نكتب ما دامت رسائلنا لا تصل إلى أصحابها، وإنتاجنا يقابل بالتجاهل؟

لا أحد ينكر دور الإعلام في توعية الإنسان بما يحدث في كل بقاع الأرض. ولا يمكن أن ننسى دور الصحفيين والمصورين والمراسلين الفدائيين الذين يضحون بأرواحهم كل يوم في سبيل نقل الحقيقة بالكلمة والصوت والصورة إلى القراء والمستمعين والمشاهدين. ولا أحد ينكر دور الإعلام في التعريف بالمبدعين والفنانين وبأعمالهم ففي غياب تام  للنقد الأدبي والفني، تكتسي تعليقات الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية على أعمال الكتاب والفنانين والتعريف بها وبأصحابها أهمية جوهريّة، لأنها تصبح الرّئة التي يتنفس من خلالها المبدعون، وصلة وصل بينهم وبين الجمهور تزداد أهميتها ويتعاظم محلها من الإعراب كلما انحسر النقد أو تجمَّد.

العلاقة وثيقة إذاً بين الإعلاميين والمبدعين، ولا سيما بين الكاتب والصحفي، فالكاتب الحر يتقاسم مع الصحفي الحر شرف الانتساب للقلم ومسؤولية الكلمة وتبعاتها، ويشتركان معاً في النضال ضد الجهل والتخلف والفساد والديكتاتورية والإرهاب المادي والعقائدي والدفاع عن قيم الحرية والعدالة مع الفنانين الآخرين من رسامين ونحاتين ومسرحيين وسينمائيين. وكما أن الثقافة تقرب بين الشعوب، كذلك يقرب الإعلام الحر بين الشعوب وإن عارض أو هاجم الأنظمة، ولا يدغدغ أحط العواطف ويبث مشاعر الكره والبغضاء وسموم الطائفية والعنصرية بين أبناء البلد الواحد وبين الأشقاء. ويحترم الإعلام الحر الكتاب والفنانين ويعي دورهم في نشر المحبة والسلام بين الشعوب ويدعمه، ولا يحاول استخدامهم في تهييج الجماهير وإشعال نار الفتنة.

وما نطمح إليه أن يساهم إعلاميونا مع الفنانين والكتاب في إنتاج أعمال درامية عن رموز الجزائر وأبطالها قديما وحديثا لتعريف الأجيال الجديدة بهم، وكذلك إنتاج أعمال درامية مستوحاة من روايات ومسرحيات وقصص محمد ديب وعبد الحميد بن هدوقة ومالك حداد والطاهر وطار ومولود فرعون ومولود معمري ومن خلفهم من المبدعين. أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلا إلى إرادة سياسية لتتحرك الآلة الثقافية والفنية، فكتاب السيناريو الجزائريون متوفرون والممثلون الممتازون جاهزون والمخرجون المتميزون حاضرون ولم يبق إلا الإنتاج، فهل يتكرم المسؤولون في وزارة الاتصال برسم سياسة لقنوات الإذاعة والتلفزة تقوم على تشجيع الإنتاج الوطني للنهوض بثقافة وطنية تتفاعل وتتنافس مع ثقافة أشقائنا العرب وجيراننا وأصدقائنا في إفريقيا وأوربا؟ أم أن الوزارة الوصية تهتم بالإعلام وحده؟

وإذا تجاهل الإعلاميون احتضان الإنتاج الثقافي الوطني،  فهم يتحملون مسؤولية تاريخية جسيمة أمام الجمهور الجزائري في ركود المشهد الثقافي، ودفع الكتاب إلى الاعتزال، وانحطاط الأغنية، واضطرار الموسيقيين والمطربين إلى العمل في الملاهي لكسب لقمة العيش، وقبول الممثلين لأدوار تافهة تحط من قيمتهم وقيمة الفن الذي يمثلونه، تنتجها لهم مؤسسات تجارية ليس لها هدف إلا الربح. وسيكون إعلامهم مهما ازدهر منقوصا  لأنه إعلام بلا ثقافة. وما نفع شروق عصر الإعلام إذا انكسفت الثقافة؟

أما جوابي عن السؤالين: لمن أكتب؟ ولماذا أكتب؟ فأعتقد أنه جواب معظم الكتاب والشعراء: "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون". لن نعتزل ولن نعلن وفاة الكلمة. سنظل نكتب لأن النصوص الجيدة لا تموت، فإن كانت نصوصنا تستحق الحياة فستجد قرّاءها ولو بعد حين، وإن لم تكن في المستوى فيكفي أننا حاولنا، وأبقينا المشعل مضيئا لنسلمه للأجيال القادمة.

 

الجزائر في 16 جوان 2010

عبد الله خمـّار