تعقيب على استفتاء قناة "الجزيرة" المشبوه

Commentaire Sur Le Sondage d'Aljazeera

لا منبر للباطل

   Pas De Tribune Pour Mensonge

 

لم أكن الوحيد من المواطنين العرب الذين استبشروا خيرا بظهور قناة الجزيرة التي كسرت الاحتكار الإعلامي للأنظمة العربية وأراحتنا من أحادية الصوت في كل قطر ومن عبادة الشخصية وتمجيد الأوحد والرائد والقائد، وكانت في البداية منبرا لمن لا منبر له ومائدة حوار بين الأصوات المتعددة المعارضة والمؤيدة للأنظمة.

لكننا اكتشفنا بعد مدة أن للجزيرة استراتيجية إعلامية محضة وليست لديها استراتيجية تنويرية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى يتجاوز المذاهب والإيديولوجيات. كل ما يهمها هو نقل الأخبار دون اتخاذ موقف منها وإسماع كل الأصوات دون استثناء بصورة تبدو محايدة وهو ما جعل منها أشبه بـ"هايد بارك" عربية يتحدث فيها العقلاء والمجانين والطبيعيون والشواذ والمتسامحون والمتزمتون والمعارضون الحقيقيون والقتلة المجرمون والمؤمنون بحقوق الإنسان والمستهينون بهذه الحقوق. إنها منبر لكل الأصوات، يقول فيها كل من هؤلاء ما يريد، ولا تحاول أن تميز بين صوت الحق وصوت الباطل فكلاهما سواء بالنسبة إليها.

قد يقول قائل: " كيف نفرق بين الحق والباطل ما دام كل طرف يدعي أن الحق معه والباطل في جانب خصمه؟"

هذا صحيح في الخلاف السياسي وحتى العقائدي بين الأطراف المتنازعة، وكل يرى الحق بجانبه والناس يختلفون في إعطاء الحق لهذا أو لذاك. الخلاف مثلا بين جبهة التحريرالوطني في الجزائر وجبهة القوى الاشتراكبة هو خلاف سياسي، والخلاف بين جماعة 8 مارس و14 مارس"آذار" في لبنان هو خلاف سياسي، ولا يمكن لأحد أن ينكر على أي قناة إعلامية أن تكون منبرا لهؤلاء وهؤلاء لأن كلا من الأطراف في المثالين لا يلجأ إلى الوسائل الدنيئة التي لا تقبلها الأعراف والأخلاق والأديان ومبادىء حقوق الإنسان. ونظرة كل منا إلى الحق والباطل هنا وهناك نظرة نسبية قابلة للحوار والنقاش. أما الخلاف بين المجتمع ككل وبين الإرهابيين الذين يسفكون دماء الأبرياء ويبررون ذلك بحجج عقائدية أو دينية فهو صراع بين الحق والباطل بالمعنى المطلق. هناك أبيض وأسود هنا وليس هناك منطقة رمادية فمن يستبيح دماء الأبرياء لأي سبب فهو على باطل في كل القوانين السماوية والوضعية. ولا يمكن قبول أن تكون القنوات الإعلامية منبرا لجماعة القاعدة في الجزائر أو لإرهابيي نهر البارد في لبنان فذلك حياد مشبوه بين الحق والباطل وتسوية خبيثة بينهما وتوفير منبر للظالم المعتدي ليستمر في ظلمه وعدوانه.

في عز خلاف الأمة العربية مع أمريكا المتواطئة ضدنا في كل قضايانا العادلة، لم يلجأ إعلامي عربي بعد أحداث سبتمبر في نيويورك إلى إجراء استفتاء حول تأييد أو استنكار ما حدث لأن هذا العمل باطل فالدم المسفوك هو دم الأبرياء سواء أكان أمريكيا أم أوروبيا أم عربيا ولا يمكن لمن يعتقد أن معركته حق أن يقف مع الباطل.

كنا نظن أن شعار:"الجزيرة منبر من لا منبر له" ينطبق على من لديهم مشاريع لبناء المجتمع، سياسية كانت أو اجتماعية، ويشمل كذلك المظلومين سياسيا واجتماعيا. ولم يكن أحد يعترض حتى على كونها منبرا لمن لديهم مشاريع ظلامية ورجعية ما داموا يعمدون في طرح أفكارهم إلى الوسائل السلمية. لكن فتح الجزيرة منبرها للقاعدة التي تفخر بقتل المواطنين المدنيين الأبرياء وتفجير المباني بمن فيها من الأطفال والنساء والشيوخ هو وضع منبر تحت تصرف الباطل يدعمه ويقويه وتحت تصرف الظالم لا المظلوم وتحت تصرف المجرمين. وهذا يعني أن استفتاء الجزيرة المشبوه المدعم بوضوح للإرهابيين المجرمين في الجزائر ليس مجرد خطيئة مهنية وهي ليست الأولى ونتمنى أن تكون الأخيرة، فلو كانت هناك استراتيجية واضحة لهذه القناة تجاه الإرهاب لما خطرت ببال بعض صحافييها فكرة هذا الاستفتاء أصلا.

لا فرق  في اعتقادي بين من يقتل الأبرياء باسم السياسة وبين المجرم العادي الذي يقتل ليسرق فكلاهما مجرم سفاح. وما دام الأمر كذلك، هل تقبل الجزيرة أن توفر منبرها للقتلة العاديين واللصوص؟

ونتساءل أخيرا: "ماذا كان حصاد الجزيرة بعد كل هذه السنوات؟ وهل أضافت شيئا للإعلام العربي؟"

من المؤكد أنها أضافت الكثير فعلا. إن نقل الخبر فوريا من أي مكان في الأرض وفي ظروف حرجة وخطيرة عمل احترافي مهني تشكر عليه الجزيرة وصحافيوها. لقد أراحتنا من أحادية الصوت والاحتكار الإعلامي ولكنها في الوقت نفسه لم تكن منبرا لمعارضي الأنظمة الحقيقيين وحدهم بل سوت بينهم وبين كل مغامر وانتهازي جديد في السياسة ووضعت الجميع في صف واحد مع القتلة المجرمين. وبذلك أضعفت المعارضة الجادة وخدمت الأنظمة التي عادت مجددا إلى التمجيد والتوحيد.

على الجزيرة أن تحدد استراتيجيتها جيدا ليعرف صحافيوها إلى أين يسيرون، فإما أن يكون موقفها مائعا من كل القضايا وتكون مجرد صدى لكل الأصوات لا تفرق في ذلك بين الحق والباطل وتساهم في إثارة النعرات الطائفية والعنصرية والمذهبية، وهي بذلك تضعف المعارضة الجادة وتدعم الأنظمة وتعطيها مبررا للبقاء والاستمرار كما نرى الآن، وإما أن تكون قناة تنويرية لها موقف واضح من كل القضايا المصيرية مستمد من مبادىء الحرية والعدل وحقوق الإنسان.

                                       عبد الله خمّار

ـــــــــــــــــ

نشر هذا المقال في العدد 5200 من جريدة " الخبر" بتاريخ 24 ديسمبر 2007 وسقط منه سهوا التساؤل ما قبل الفقرتين الأخيرتين ومعظم الفقرة الأخيرة.