الفصل الرابع
من رواية "العرس المشهود"
للكاتب عبد الله خمّار
حكاية عمار
أجرى الدكتور سمير أخو الضابط رابح عملية القلب لزوجة عمي علي، وأعاد عمي علي العقد لنور شاكرا فضلها وأريحيتها، وذاع في الجريدة بعد إطلاق سراحه أن المصححة الجديدة نور هي التي وهبته العقد ليجري عملية لزوجته. وأكبر معظم المحررين هذا العمل الإنساني منها وفي مقدمتهم مختار رئيس التحرير الذي بدأ ينظر إليها نظرة إعجاب، ويهتم بها ويدعوها في فترة استراحة الظهر لتناول الغداء في "البيزيريا" القريبة. وقد أثار هذا حفيظة السكرتيرة حسيبة والمحررة نوال اللتين وجدتا فيها منافسة لهما في الوصول إلى قلب رئيس التحرير. وبدأتا تعاملانها بغلظة وجفاء دون سبب ظاهر.
*
قال مختار للمحررة نوال التي دخلت مكتبه لتعرف رأيه في مقالها عن المرأة: " تمجيد غير مبرر للمرأة دون أمثلة مقنعة، أعيدي صياغة المقال، وحاولي أن تكوني واقعية لا مثالية".
سألته نوال: "هل تسمح لي بأن أقول رأيي بصراحة؟"
رد مختار: "طبعا قولي رأيك دون تردد".
قالت بحماس: "أنت دائما متحامل على المرأة ولا تحاول تشجيعها".
رد مختار: "بل أتحامل على الجيل الجديد من النساء. كانت أمهاتنا وجداتنا تعمل إحداهن طيلة النهار كالنملة لا تكل ولا تمل، تطبخ وتكنس وتغسل وتنظف الدار وتربي الأولاد وتخيط وتطرز وتعتني بالزرع. كانت تهتم بالجانبين المعيشي والجمالي من الحياة، ولا تتضجر ولا تتأفف لأنها تعتبر أن هذا هو عملها الذي خلقت له، وحين يقع الزوج في أزمة تعطيه ما تملك من ذهب ليفك بها أزمته.
أما الأجيال الجديدة من النساء فلا هنّ يشبهن أمهاتنا وجداتنا، ولا هنّ يشبهن المرأة الأوروبية التي تعمل بجد خارج وداخل المنزل دون شكوى أو تذمر، هنّ يسببن الأزمات المادية للرجل بمطالبهن المادية التي لا تنتهي وفوق ذلك فهن سطحيات يعتنين بالمظهر دون الجوهر والذهب عندهن أهم من الرجل".
أخذت نوال المقال غاضبة وخرجت دون تعليق. تابعت نور الحوار وصدمت برأيه في المرأة واستنتجت من حماسه وحرارة خطابه أنه تعرض لتجربة قاسية مع إحدى النساء، فأصبح يقيّم كل النساء من خلال تلك المرأة.
*
جلسا في ركن منزو في الطابق الأعلى من بيزريا "بالهنا والشفا". كانت البيزيريا تعج بالزبائن ولكن أكثرهم يفضلون الأكل على "الكونطوار" أو حمل البيتزا إلى ديارهم أو مكاتبهم، وكان لا بد أن ينتظرا أكثر من نصف ساعة حتى يأتي دورهما.
قال لها مختار وهما يتناولان "الهمبورغر": " لاحظت أنك لا تستعملين الهاتف في وقت العمل. وهذا أمر نادر بين الموظفين".
ابتسمت نور وقالت: "ليس لدي من أكلمه أو يكلمني".
دهش مختار من قولها وسألها: " أليس لديك أصدقاء أو صديقات؟"
تنهدت وحدثته عن صديقة عمرها نعيمة، وكيف اشترط زوجها عباس أن تقطع علاقتها بنور وأن تترك الوظيفة وتمكث في الدار. وروت له كيف صفع زوجته وطردها لأنها اعترضت على طرد صديقته نور. وأخبرته أن أباها القاضي أجبرها على الانصياع لشروط زوجها، لأن الطلاق يسيء إلى سمعته، وسمعته أهم من سعادة ابنته، ومن تحصيل حقوقها بتطبيق القانون.
كان مختار يستمع إليها باهتمام جمع إلى فضوله الصحفي تعاطفه غير الإرادي مع هذه الفتاة التي بدأت تتسلل إلى قلبه المغلق منذ سنين دون كل أنثى حاولت دخوله، وعلق مختار على ذلك بقوله: "المشكلة ليست في القاضي وحده ولا في عباس وأمثاله، فسلوكهم هو انعكاس لأفكار المجتمع. القانون وحده لا يحمي المرأة ويمنحها حقوقها إذا كان الناس لا يؤمنون به. ومجتمعنا ليس الوحيد في ذلك، فمازالت معظم المجتمعات العربية والإسلامية تحتقر المرأة".
ردت نور معترضة "لا أعتقد أن الإسلام هو الذي يحتقر المرأة".
قال مختار: "على العكس فقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة، لكن هذه المجتمعات العربية وغيرها كانت تحتقر المرأة قبل الإسلام. وتأثر بعض الفقهاء الذين ينتمون إلى هذه المجتمعات بالتقاليد القديمة في احتقار المرأة فحولوها إلى فتوى. وأنت ترين أن مذهبا واحدا من المذاهب الأربعة وهو المذهب الحنفي يسمح للمرأة البالغة الراشدة بتزويج نفسها بينما تمنح المذاهب الأخرى حق تزويجها للولي. وحتى اشتراط موافقتها تسلبه منها معظم الممارسات العملية. كيف يجعل الإسلام العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبعض المجتمعات تحرمها منه؟ ألا ترين الآن أن المرأة في بعض الدول العربية ممنوعة من ممارسة كثير من حقوقها بفتاوى فقهية همشتها وانتقصت من أهمية دورها في المجتمع؟"
سألته نور: "وما هو الحل في رأيك؟"
أجاب مختار: "الحل أن تشارك المرأة في الاجتهاد الفقهي في عصرنا هذا حتى يعود التوازن إلى المجتمع، ولا يخلو التاريخ الإسلامي من العالمات الفقيهات في كل العصور".
نظرت إليه نور بإعجاب وهو يدافع عن حقوق المرأة، وفجأة تجسدت صورة أبيها عمّار فيه وهو على مائدة القمار بالبذلة السوداء، ثم تجسدت صورة خالها حسّان فيه وهو يمزق ثوبها الأحمر ويكسر قيثارتها، وأخيرا رأت فيه صورة عباس الغيور الشكاك زوج صديقتها نعيمة وهو يطردها من دار صديقتها، قالت في نفسها: "لا يمكن أن يكون خيرا من هؤلاء الرجال".
*
لفتت نظر نور كثرة رسومات الكاريكاتير في الجريدة التي ترافق المقالات فسألته عمن رسمها، أجاب مختار: "باية، وهي رسامة بارعة رغم أنها مازالت في العشرينات".
علقت نور: "إنها موهوبة فرسوماتها متميزة وتشجع على قراءة المقالات المرافقة لها".
أضاف مختار: "ليس الرسم موهبتها الوحيدة، فهي بارعة أيضا في صنع الأقنعة المطاطية والبلاستيكية. تستطيع صناعة قناع لأي فنان مشهور. وإذا أردت، أحضري لها صورة لمن تريدين فتصنع قناعا صورة طبق الأصل لوجهه".
سألت نور: "وكم تأخذ ثمن القناع؟"
أجاب مختار: "تتقاضى أجرا معقولا، لأنها تستمتع بعملها".
*
قالت باية رسامة الكاريكاتير لنور: "أحببتك منذ عرفت حكاية العقد لأنك لست مادية. أنت نادرة في هذا العصر الذي أصبح فيه معظم الناس ماديين".
احمر وجه نور خجلا وشكرتها، ارتاحت كل منهما إلى الأخرى وبدأت العلاقات تتطور وتتوطد بينهما. كانت نور بحاجة إلى صديقة تبثها همومها ونجواها بعد فقدانها أمها وابتعادها عن صديقة عمرها نعيمة. حرصت على أن تخفي حكاية أبيها المقامر عن كل من حولها ولكنها وثقت بباية، وروت لها ما حدث وهما ترتشفان القهوة عند ذهاب رئيس التحرير إلى اجتماع مطول مع المدير:
قالت نور: "كان أبي عمّار الشطي رئيس قسم الحسابات وأمين الخزنة بمؤسسة بولعيون للأواني الزجاجية، وكان من عادته أن يأتي يوم الجمعة صباحا قبل صلاة الجمعة ليراجع الحسابات في الدفاتر والصندوق.
في ذلك اليوم المشئوم من أيام سبتمبر عام 2006 استعد أبي للخروج فتمسك به أخي سالم ذو السبع سنوات فأخذه معه. خرج أخي يلعب أمام المؤسسة في حي الحراش في غفلة عن أبي فصدمته سيارة فجرح على إثرها وأخذ ينزف من رأسه وفقد وعيه. حمل أبي أخي الجريح إلى المستشفى لكنه فارق الحياة. ولم يتحمل أبي شدة الصدمة فسقط ميتا بالسكتة القلبية. وفي يوم الأحد جاء لطفي بولعيون، وفتح الخزنة فوجدها فارغة. وعرفنا فيما بعد أن أبي كان يلعب القمار واختلس كل المبلغ الذي كان في عهدته في الخزنة.
حوكم أبي بعد موته وأدين بتهمة الاختلاس وصودرت أملاكه فطردنا من الفيلا وصودرت سيارته والأرض التي ورثها عن أبيه في باتنة. وقد ورثت أمي عن أبيها شقة كان خالي يستعملها مخزنا لبضائعه، فانتقلنا إليها. كانت أمي خريجة معهد اللغة العربية في كلية الآداب، لكنها لم تستطع أن تعمل في التعليم خوفا من شماتة زملائها وزميلاتها بها. ومن حسن الحظ أنها كانت خياطة ماهرة. باعت سيارتها لتشتري ماكينة الخياطة وأدواتها. وبدأت تخيط في البيت الثياب والقفاطين حتى سقطت مريضة بالقلب، واحتاجت إلى عملية عاجلة وكان دورها في المستشفى الحكومي بعد عدة أشهر لكنها غادرت الحياة قبل موعد العملية".
غصت عينا نور بالدموع وكان صوتها يخفت شيئا فشيئا حتى لم تعد تستطيع الكلام، أصغت باية إليها باهتمام وقد دمعت عيناها من التأثر، وعانقتها بحرارة وربتت على كتفها وهمست في أذنها: "لا تقلقي وانسي ما حدث ولا تحملي وزر أبيك، وثقي بالله فلن يضيعك".
*
أرادت باية تغيير دفة الحديث فسألتها مباشرة عن رأيها في مختار رئيس التحرير.
تورد وجه نور وأجابت: "هو صحفي كفء يؤدي عمله بمنتهى الجدية والاحترافية". ثم أضافت مستفسرة: "ولكن لماذا تسألينني عنه؟"
ابتسمت باية وأجابت: "لأنني لاحظت اهتمامه بك".
تورد وجه نور من جديد. وتابعت باية: "مختار لم يهتم بأحد مثل اهتمامه بك رغم أن الكثيرات يطاردنه. ولم يدع أحدا للغداء من قبل".
علقت نور: "لاحظت أنه متحيز ضد المرأة الجزائرية".
أخبرتها باية بأن مختار كان يقارن المرأة الجزائرية بجدته الألمانية التي ورث عنها بياض البشرة وشقرة الشعر وخضرة العينين. كانت جدته لأبيه تدرّس الألمانية في جامعة الجزائر وهو يعتبرها مثالا في الانضباط في العمل واحترام الوقت، وبينما اهتمت جدته بالعلم والأدب كانت أمه تعيّر أباه الصحفي لأنه لم يشتر لها الذهب والألماس، في حين أغرق زوج أختها التاجر زوجته بالمجوهرات. ومما زاد الطين بلة أنه صدم في حبه الكبير في الجامعة حيث أرسلت له حبيبته وخطيبته خاتم الخطبة دون أي تفسير أو اعتذار وتزوجت فجأة من رجل أعمال غني. ولذلك اعتقد أن المرأة الجزائرية سطحية ومادية وتبحث عن الرجل الذي يشبع ولعها بالذهب والمجوهرات. وقد اهتم بك لأنك أبطلت حكمه المسبق على المرأة الجزائرية حين تخليت عن عقد الذهب والألماس لإنقاذ حياة إنسانة. وسألتها: "هل لاحظت أنه قليلا ما يبتسم؟ وإذا ابتسم فابتسامته ساخرة تنبع من العقل لا من القلب".
أجابت نور: "لاحظت ذلك، فهل تعرفين السبب؟"
ردت باية: "مات أبواه في حادث سيارة إذ صدمتهما شاحنة كانت تتجاوز في المنعطف شاحنة أخرى على طريق البويرة، حين كان طالبا في السنة الأخيرة في الجامعة وقبل إنجاز الطريق السريع".
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: خالتي زهيّة
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: عمي علي والعقد
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: العرس المشهود
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات