الفصل السادس

من رواية "العرس المشهود"

للكاتب عبد الله خمّار

 

 

 ماما حكيمة

كانت نور شبه يائسة بعد وفاة الشاهدة الوحيدة على براءة والدها، قال لها مختار مشجعا: "لا تيأسي فلا بد أن نجد طريقة لإثبات براءته. اقترح أن يبحثا عن عبد الكريم الجايح ويشرعا في جمع بعض المعلومات عنه. والمنطق يقتضي أن يسألا عنه في آخر عنوان معروف له. وهذا العنوان هو مؤسسة بولعيون التي كان يعمل فيها. اتصل مختار باستعلامات الهاتف وطلب رقم المؤسسة وعرف أنها ما زالت تعمل.

وقفت نور ومختار أمام باب المؤسسة في الحراش. وجدت نفسها فجأة أمام الرجل الذي رأته في المقبرة يبكي بجانب قبر أبيها. وعرفت أنه بواب المؤسسة. لفت نظرها إلى جانب نحوله الشديد وعرجه الخفيف تحرك طقم أسنانه العلوي أثناء الكلام.

استقبلهما لطفي بولعيون في مكتبه، ابتسم وهو يمد لها يدا ضخمة لمصافحتها ويتأملها بعينيه الزرقاوين. كان أبيض الوجه، رزينا، في حوالي الخامسة والخمسين، بدينا بعض الشيء، لكن طوله أخفى بدانته، ولم تنقص من مهابته بذلة العمل الزرقاء التي يرتديها كعمال مصنعه، وحين جلس برزت كرشه أمامه فجأة كأن بها نابض.

أخبرهما أن الجايح استقال من المؤسسة قبل عشر سنوات ولم يره ولا يعرف عنه شيئا منذ ذلك التاريخ. أما عنوانه القديم فهو دار الأيتام. ونصحهما بالاتصال بالدار التي تولت تربيته منذ صغره، وهي التي توسطت له لدى المؤسسة للعمل محاسبا فيها بعد تخرجه من كلية التجارة. أرادت نور عند خروجها أن تسأل البواب عن أبيها وعلاقته به فعرفت أن بو لعيون أرسله في مهمة.

استقبلت مديرة الدار نور ومختار وأخبرتهما أن هناك مربيتين أختين كانتا قبل عشر سنوات تتوليان العناية بالأطفال، وأحيلتا على التقاعد لبلوغهما السن القانونية، وهما ماما رحيمة وماما حكيمة. لم تعطهما عنوانهما إلا بعد أن اتصلت بماما حكيمة هاتفيا ووافقت على لقائهما حين عرفت أنهما يبحثان عن عبد الكريم الجايح.

ماما حكيمة تسكن في حي القصبة مع أختها الكبرى الأرملة رحيمة في دار تبدو وكأنها آيلة إلى السقوط في أي لحظة. استقبلتهما امرأة مفعمة بالنشاط والحيوية يوحي مظهرها بأنها في الخامسة والأربعين لا في سن التقاعد، عرفا لدهشتهما أنها ماما حكيمة. قادتهما إلى غرفة واسعة، جدرانها مشققة ذات لون سماوي باهت علقت عليها بعض صور الأطفال وماما حكيمة وماما رحيمة في وسطهم. أثاث الغرفة متواضع لكنها مضيئة ونافذتها المفتوحة تطل على حديقة الدار الصغيرة فتملأ جو الغرفة بعبير الورد والفل والياسمين. كل شيء فيها نظيف حتى الصور القديمة المعلقة على الجدار مرتبة بعناية. أراد مختار أن ينزع حذاءه كي لا يدنس السجادة الزرقاء المهترئة فأعلمته ماما حكيمة ألا لزوم لذلك لأن لديها سجادة صغيرة للصلاة. دعتهما إلى الجلوس على الكنبة المزدوجة المخملية الوحيدة التي حال لونها وتعبت نوابضها من وطأة السنين فأصبحت مسطحة كأن الجالس علها يجلس على لوح من الخشب. عدلت غطاء رأسها الأبيض المنسدل فوق "الكراكو" الأزرق وسحبت كرسيا من الكراسي الخشبية الخمسة في الغرفة وجلست قبالتهما. نظرت إليهما بعينيها العسليتين الفاحصتين من خلال نظارتها قائلة: "لماذا تسألان عن عبد الكريم الجايح؟".

أجابها مختار مشيرا إلى نور: "هي تسأل عنه لأنه كان صديق والدها وتريد معرفة عنوانه لتكتب له وتطمئن عليه".

فاجأتهما بقولها معترضة بلهجة جافة: "أنتما تكذبان. عبد الكريم الجايح ليس له أصدقاء. قولا بصراحة ما الذي تريدان منه".

ردت نور: "سأخبرك بالحقيقة". روت لها ما حدث قبل عشر سنوات في اليوم المشئوم الذي توفي فيه أبوها وأخوها. وكيف اتهم أبوها بسرقة الخزنة والمقامرة بأموالها. وشرحت لها معاناتها مع أمها بعد مصادرة أملاك أبيها وطردهما من الفيلا، وكيف كرهت أباها طيلة هذه السنين. وأخبرتها بعد ذلك عن شهادة خالتي زهية عاملة التنظيف التي تثبت براءة أبيها وتؤكد أن السارق هو عبد الكريم الجايح.

صمتت ماما حكيمة برهة ثم قالت: "أنا لا أعرف عنه شيئا منذ سفره ولكني أصدق كل ما قلته"، وأضافت بمرارة: "قبل حوالي عشر سنوات ولا أذكر التاريخ بالضبط، زار عبد الكريم أختي رحيمة في دار الأيتام ولم يكن يزورها إلا ليطلب معونتها. رجاها أن تحتفظ له في دارنا بالقصبة بحقيبتين ادعى أنهما تحتويان على كتبه وأغراضه الشخصية لأن هناك إصلاحات تجري في منزله.

كان يعرف الدار لأن أختي كانت تأخذه إليها في العطل منذ كان صغيرا، أعطته مفتاح الدار ومفتاح غرفتها. وضع الحقيبتين في غرفتها وأعاد لها المفتاحين. ليس من عادتي أن أقرأ الصحف لكن المديرة أحضرت لي صحيفة تتحدث عن سرقة خزنة مؤسسة بولعيون لأنها تعرف أن عبد الكريم الجايح يعمل فيها وأن أمره يهمني. وحين ذهبت إلى داري لإحضار بعض الألبسة وجدت الحقيبتين وعجبت من كونهما جديدتين وفاخرتين واستنتجت أنه اشتراهما حديثا، حاولت حملهما فلم أستطع لثقلهما وأستنتج الآن أنهما كانتا مليئتين بأموال الخزنة، ووضعهما عند أختي خوفا من أن تفتش الشرطة مسكنه.

وفي أحد الأيام عدت إلى الدار فوجدت الحقيبتين قد اختفتا، فزعت وظننت أنهما سرقتا، لكن أختي أكدت لي أن عبد الكريم أخذ الحقيبتين وسافر دون أن يودعني. لم يودعني وأنا التي توليت تربيته مع أختي رحيمة منذ كان في الثالثة من عمره. أحببته وعطفت عليه كأنه ولدي. كان مختلفا عن كل الأطفال الذين كانوا في دار الأيتام. كان معروفا بالسرقة منذ صغره. ولم يكن يحب أحدا إلا نفسه. كبر وكبرت معه أنانيته، لكنني رغم ذلك ظللت أحبه وأعطف عليه. ساعدته مع أختي رحيمة في دراسته وحرصنا على أن يدخل الجامعة ويتخرج منها ليصبح محاسبا".

سألتها نور: "هل تستطيعين أن تشهدي في المحكمة بما قلته الآن عن الحقيبتين؟"

أجابت بحماس:" سأشهد إحقاقاً للحق، ولا يمكن أن أكتم الشهادة".

قضينا أمسية كاملة مع ماما حكيمة حدثتنا فيها عن عبد الكريم. كنا نظن أنه مجهول النسب لكنها أخبرتنا أن أباه صابر كان عازفا في الكباريهات والملاهي وأمه راقصة اسمها أنغام، أغرم بها أبوه وتزوجها وبدآ يعملان معا في ملاهي الجزائر وتونس. رزق الزوجان بولد سمياه عبد الكريم، وحين أصبح الطفل في سن الثالثة كانت المشاكل قد بلغت أوجها بين الزوجين. ومما زاد في حنق صابر أن أنغام بدأت تخرج عن طوعه وتجالس زبائن الملهى وتشرب معهم لتغيظه. ودفعته غيرته في إحدى الليالي إلى شراء خنجر طعنها فيه أمام الزبائن فسقطت جثة هامدة. اقتيد صابر إلى السجن ووجدت معه بطاقة تعريف مزورة باسم صابر الجايح. أخبر أحد الموسيقيين في الملهى المحققين أن صابر أسر له يوما أنه ابن إمام مسجد أراد أبوه أن يربيه تربية دينية ليخلفه في الإمامة، وكان يضربه من أجل الصلاة ويوقظه قبل صلاة الفجر ليرافقه إلى المسجد لكن الطفل كانت له ميول أخرى. كان صوته جميلا وكان يحب الغناء وجلسات الطرب. كبر الطفل ولم يستطع أبوه أن يمنعه من الغناء فتعلم العزف على العود والضرب على الدربوكة، وبدأ يغني ويعزف في الكباريهات والملاهي. كان أبوه يناديه صابر الجايح فسمى نفسه الجايح. وأسر له مرة أخرى وهو يتنهد بأنه يأسف لأن أباه لم يسمح له بممارسة هوايته وإشباعها في المنزل ولو فعل لواصل دراسته ولما انقلبت حياته رأسا على عقب واضطر إلى العمل في الملاهي ولما انقطعت صلته بعائلته.  

حاول المحققون أن يعرفوا اسم عائلته وفي أي ولاية تقيم من أجل كفالة الطفل لكنه أصر على الصمت ولم يستطيعوا كذلك معرفة اسم عائلة أمه. حكم على صابر بالسجن عشر سنوات لكنه مات قبل أن تنقضي هذه المدة. ووضع عبد الكريم في دار الأيتام وظل بها حتى حصل على شهادة البكالوريا.

 *                      

أرتهما ماما حكيمة بعض صوره معها ومع ماما رحيمة ومع الأطفال وهو صغير في الصور المعلقة على الحائط. لاحظت نور أن الجايح يظهر مع ماما رحيمة في وسط الصورة مبتسما بقربها ويظهر متجهما عابس الوجه مع ماما حكيمة في طرف الصورة.

كانت تتحدث عنه بعتب وتعتبره عاقاً لم يقدر ما فعلته هي وأختها رحيمة من أجله. حدثتهما عن أحلامه وطموحه فأخبرتهما أنه كان دائم التذمر من اسم الجايح ويعتزم تغييره. وكان يحلم منذ صغره أن يكون غنيا، وكبر معه هذا الحلم حين عمل في مؤسسة بولعيون. كان يقول لماما رحيمة: "حلم عمري أن أكون مليارديراً في يوم من الأيام فهل يتحقق هذا الحلم؟".

فتجيبه: "كل شيء ممكن بإرادة الله".

فيتنهد ويزفر زفرة طويلة قائلا: "من أين؟ راتبي بالكاد يغطي نفقاتي وأنا أعزب، فكيف إذا تزوجت؟".

فتقول له أختي: "ربما يفتح الله لك بابا غير الراتب فأبوابه كثيرة".

سألناها عن أختها رحيمة فأخبرتنا بأنها تقيم معظم السنة مع ابنها وأحفادها في وهران.

علق مختار على لقائهما بحكيمة قائلا: "هذه المرأة تكره عبد الكريم وتدعي أنها ربته، والغريب هو أنها مستعدة للشهادة ضده رغم أنها مربيته وتعتبر أما له".

ردت نور معترضة: "لعلها تريد أن تشهد بالحق". 

رد مختار: "الأم لا تشهد ضد ابنها أبداً".

وحين رأى خيبة أمل نور لأن ماما حكيمة لا تعرف عنوان الجايح وعدها بالبحث عنه حتى يجده.

 

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الصداقة

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: خالتي زهيّة

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: العرس المشهود

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات