الفصل الثالث

من رواية "العرس المشهود"

للكاتب عبد الله خمّار

 

 

   عمي علي والعقد

وصلت نور إلى الجريدة في الساعة الثامنة تماما فلم تجد سوى عمي علي ومختار، قال لها مختار: "لا يأتي المحررون باكرا، فهم يسهرون في الليل".

طرق عمي علي الباب واستأذن في الدخول وطلب من مختار أن يبلغ سكرتيرة المدير عندما تأتي أنه ذاهب لأمر عاجل، وسيغيب ساعة ثم يعود. فهمت نور أنه ذاهب ليبيع العقد، لكنه لم يعد بعد ساعة أو ساعتين وظهرت علامات القلق في وجه مختار على غياب عمي علي، فليس من عادته أن يتغيب.

قالت نور في نفسها: "ربما لم يجد حتى الآن من يشتري منه العقد"، ثم نسيت الموضوع وانهمكت في التصحيح إلى أن أعلمها مختار بأن لا ضرورة لحضورها اليوم بعد الظهر فمعظم صفحات عدد الغد مصححة وعادت إلى الدار مبكرة كما أذن لها مختار".

 *                      

ألقت نور تحية الصباح على السكرتيرة حسيبة. وقبل أن تجيبها السكرتيرة، برز أمامهما فجأة صبي في حوالي العاشرة منفوش الشعر، يلهث بصوت مسموع وقال لحسيبة: "أين أبي؟ لم يحضر أمس إلى الدار وأمي قلقة عليه".

أجابته حسيبة: "توفيق! أبوك بخير فلا تقلق".

سألها بلهفة: "أين هو؟" وأضاف: "لم أذهب إلى المدرسة لأن أمي مريضة ولم تنم طيلة الليل".

ترددت حسيبة لحظة ثم قالت: "في قسم الشرطة".

بان الهلع في وجه الطفل وسأل: "لماذا؟"

-  "لا أدري. اذهب إلى القسم واسأل عنه هناك".

-  "أي قسم؟"

-  "هل تعرف مستشفى مصطفى باشا؟"

-  "نعم".

-  "قسم الشرطة يقابله تماما".

انطلق الطفل راكضا كما جاء. قالت حسيبة: "هذا توفيق ابن عمي علي يسأل عن أبيه".

سألتها نور بقلق: "هل قلت إن عمي علي بات في قسم الشرطة؟"

أجابت باقتضاب: "نعم". ثم سألتها: "ألم تكوني بالأمس هنا؟"

أجابت نور وهي قلقة متوترة: "تغيبت في المساء". وسألتها: "ماذا حدث لعمي علي؟"

اقتربت حسيبة من نور ووضعت فمها في أذنها وهمست: "أمسكوا به وهو يبيع عقدا مسروقا من الماس. من كان يصدق أن عمي علي سارق!؟".

انتفضت نور فجأة وكأنها لم تصدق وسألتها: "ماذا قلت؟".

همست في أذنها من جديد: "طلب سلفة من المدير لإجراء عملية في القلب لزوجته المريضة فلم يوافق، فاضطر إلى السرقة. جاء رجال الشرطة إلى هنا بالأمس وسألوا عنه المدير. أجابهم بأنه طرده من الجريدة".

صرخت نور: "لا. عمي علي ليس سارقا. أنا التي أعطيته العقد".

فغرت حسيبة فاها دهشة وقالت: "أنت!"

لم تنتظر نور وهرعت إلى قسم البوليس.

قالت حسيبة بصوت مسموع: "أنت السارقة إذا!".

 *                      

 دخل مختار إلى مكتب حسيبة قلقا وسألها: "لماذا خرجت نور من الجريدة تجري؟".

تجاهلت السؤال وقالت له مبتسمة: "صباح الخير مختار".

أجابها بقلق: "صباح الخير، أنساني منظر نور وهي تجري تحية الصباح. حاولت أن أستوقفها لكنها لم تلمحني وتابعت طريقها راكضة، ما بالها؟"

تنهدت حسيبة وأجابت: "المظاهر خدّاعة، من كان يظن أن نور سارقة؟".

جحظت عيناه وظهر على وجهه الاستنكار وسأل غير مصدق: "سارقة! ماذا تقولين؟".

ردت مؤكدة: "اعترفت لي بنفسها أن عمي علي ليس سارقا، وأنها هي التي أعطته العقد".

علق مدافعا عنها: "هذا لا يعني أنها سرقته".

رفعت حواجبها متعجبة من دفاعه عنها وقالت مستنكرة: "ألم تسمع محافظ الشرطة أمس وهو يؤكد أن العقد مسروق؟"

-  "ربما يكون السارق باعها إياه دون أن تدري".

-  "وربما لم ترد أن تبيعه بنفسها فأرسلت عمي علي، وربما وعدته أن تتقاسم معه ثمنه".

-  "قلبي يقول لي، أقصد عقلي يقول لي إنها ليست سارقة. السؤال الآن: إلى أين ذهبت وهي تجري هكذا؟"

-  "الجواب واضح: هربت حين أخبرتها بأن رجال الشرطة قبضوا على عمي علي. خافت بالطبع أن يأتوا ويقبضوا عليها هنا".

-  "لا أدري. قلبي، أقصد عقلي يقول لي إنها بريئة".

دخل المدير في تلك اللحظة والتقطت أذناه العبارة الأخيرة فسأل: " عمّن تتحدثان ومن هي البريئة؟"

أجابت حسيبة: "اعترفت نور بأنها هي التي أعطت العقد المسروق لعمي علي".

تجهم وجه المدير وعلق بقوله: "ما شاء الله! عصابة لصوص في جريدتي ولا أدري! عمي علي ونور وربما يظهر غداً أعضاء آخرون في العصابة". ودخل إلى مكتبه.

قالت حسيبة لمختار: "أنصحك أن تأخذ حذرك منها، فهي تعمل معك في المكتب. ربما تسرق هاتفك المحمول أو بعض المال من سترتك". هزت رأسها وتابعت: " لم أرتح لهذه الفتاة منذ رأيتها أول مرة، وقد صدق ظني فهي سارقة محترفة".

 *                      

وصلت نور إلى محافظة الشرطة في ساحة أول ماي فوجدت توفيق خارجا منها. سألته: "هل أخبروك أين أباك؟"

 بدا الحزن والهم واضحاً على وجه الطفل وأجاب: "لم يرضوا أن يخبروني، ربتت نور على كتفه وقالت: "لا تقلق. أعدك أن يعود أبوك اليوم إلى الدار فاطمئن".

تركت توفيق ودخلت إلى محافظة الشرطة وقابلت محافظ الشرطة وأخبرته أنها هي التي أعطت العقد لعمي علي، كلم الضابط محافظة حيدرة ثم أرسلها بسيارة الشرطة إلى هناك.

 *                      

طلبت نور مقابلة محافظ الشرطة. أخرجت بطاقة تعريفها وناولتها للضابط. اسمي نور حمزاوي وعملي مصححة في جريدة "آفاق جزائرية".

نظر إليها الضابط رابح وسألها: "ما المطلوب؟"

أجابت: "العقد الذي وجدتموه مع عمي علي هو لي، وأنا أعطيته لعمي علي ليبيعه ويجري العملية لزوجته".

وقف الضابط على قدميه وقال: "أنت شريكته إذاً".

بانت الحيرة في وجهها وسألت: "ماذا تقصد؟".

قال لها بخشونة: "اعترفي ولا تدّعي البراءة. أنت شريكته في سرقة المجوهرات".

كان محافظ الشرطة رابح يعوّل كثيرا على حل لغز سرقة مجوهرات حميد العطري. لكن استجوابه ليحيى واستنطاق قاضي التحقيق له لم يؤديا إلى نتيجة. أمل في أن يكون العقد هو الخيط الذي سيوصله إلى من سرق المجوهرات وقد زاد من شكوكه في علي الوافي تكتمه على من أعطاه العقد. وحين عرف أن نور هي التي أعطته العقد، ظن أنه قاب قوسين من حل هذا اللغز. لم يصدق ادعاءها في أنها صاحبة العقد. كان معتادا على كذب المتهم، وعلى إنكاره التهم المنسوبة إليه في قضايا السرقة. استعمل معها نفس الطريقة التي يجيدها في التحقيق؛ الشدة واللين. هددها في البداية وتوعدها بأقصى العقوبة إنْ واصلت الإنكار.

سألها: " ما علاقتك بعلي الوافي؟"

أجابت: "رأيته حين بدأت العمل في الجريدة قبل أسبوع، وأنا لا أعرفه حق المعرفة".

قال لها: "هل تعلمين أنك مشتركة في بيع مجوهرات مسروقة؟"

صرخت نور: "قلت لك إن العقد لي. ألا تصدقني؟"

صاح في وجهها: "لا تصرخي وإلا وضعتك معه في الحجز".

 ثم غير لهجته ووعدها بتخفيف العقوبة إن اعترفت بشريكها أو شركائها، وحاول إقناعها بأنه لا فائدة من الإنكار، فهي ستخرج من هنا إلى السجن مباشرة.

 قال لها بلطف: "إذا اعترفت وأخبرتنا بمكان المجوهرات، فسوف يساعدك ذلك في تخفيف الحكم".

غصت عيناها بالدموع وصاحت: "يا إلهي! ماذا فعلت حتى يحدث لي هذا؟".

صاح بها الضابط: "لا تحاولي أن تظهري موهبتك في التمثيل فلن يفيدك البكاء والدموع. من الأفضل أن تعترفي. أين خبأتما المجوهرات؟"

قالت والعبرات تكاد تخنق صوتها: "عمي علي ليس سارقا، والعقد ملكي أهدته لي أمي".

-  "لكنك لا تفهمين. هذا العقد قطعة من الجواهر المسروقة".

تابعت وهي تبكي: "بماذا أقسم لك أن العقد لي؟"

تنهد الضابط وقال: "أنت تتعبينني، لنفرض أنك صاحبة العقد فهل لديك وثيقة شراء تثبت ذلك؟".

-      "لا. هذا العقد ورثته أمي عن أمها ولكن هناك شهود يعرفون أن هذا العقد لي".

-      "من هؤلاء الشهود؟ شركاؤك في السرقة؟"

صمتت فشجعه صمتها على الاستمرار في اتهامها وقال لها ملاطفا: "أنت تورطين نفسك في قضية سرقة وإذا أردت فعلا تبرئة نفسك ومساعدة عمك علي فاطلبي منه أن يدلنا على مكان المجوهرات وإلا قضيتما في السجن عشر سنوات على الأقل".

أجابت بمرارة: "لو كنت غنية لما عاملتني بهذه الطريقة وحولتني إلى متهمة وأنا بريئة، أقسم لك أن العقد لي، لماذا لا تصدقني؟"

-     لأن ما تقولينه لا يصدق، تزعمين أن العقد لك، وقد تبرعت به للمتهم ليداوي زوجته، كذبة لا يقبلها العقل وإذا لم تعترفي سأضطر لوضعك في الحجز مع علي الوافي إلى أن يفيق الصائغ حميد العطري من غيبوبته ويتعرف على العقد".

سألته بعصبية:  "وإذا لم يفق الصائغ، هل سنبقى مسجونين؟"

فكر الضابط قليلا ثم أجاب: "أرسلت لابنته أحلام لتتعرف على السجين، وربما تتعرف على العقد".

-      "إذا استطاعت هذه السيدة أن تعطيك أوصاف العقد فأنا راضية أن أدخل السجن".

-      "ماذا تعنين بأوصاف العقد؟"

-      "عدد حباته مثلا".

علت وجهه ابتسامة سخرية ورد قائلا: "أنت تعرفين عدد حبات العقد لأنك عددتها".

تابعت قائلة: "ثم إن سلسلة العقد الذهبية انقطعت في وسطها وقد أصلحتها منذ سنة تقريبا عند الصائغ بالأشرف في شارع بلوزداد".

دخل عون الأمن معلنا أن أحلام ابنة حميد العطري قد وصلت وتستأذن بالدخول، استقبلها الضابط ودعاها إلى الجلوس، بينما بقيت نور واقفة.

سألها: "هل تعرفين هذا العقد؟"

أمسكت أحلام به وفحصته جيدا ثم قالت: "لا، هذا العقد قديم جدا ولا يوجد مثله الآن في السوق، وليس من المجوهرات المسروقة".

-      "هل أنت متأكدة؟"

-      "كل التأكد، فقد اخترت مع أبي المجوهرات التي سنأخذها معنا".

 *                      

قال الضابط لنور بعد أن خرجت أحلام: "سأطلق سراح علي الوافي وأعطيك العقد". وأضاف بلهجة توعد وتهديد: "لكن إن ثبت أنه مسروق فلن أرحمك أبدا فلا تظني أني من السذاجة بحيث أصدق أنك أعطيت عقدا ثمينا كهذا دون مقابل لرجل لا تعرفينه بدافع الشهامة". 

جلست نور قبالته وقالت: "سأشبع فضولك، أنت تريد أن تعرف لماذا أعطيت عقدا ثمينا كهذا لرجل لا تربطني به أي صلة؟ سأخبرك عن السبب: أمي ماتت قبل أيام وكانت مريضة بالقلب وبحاجة إلى عملية عاجلة. كان دورها في المستشفى العام بعد ثلاثة أشهر. اقترحت عليها أن أبيع العقد لتجري العملية في مستشفى خاص وهي التي أهدته لي حين حصلت على شهادة البكالوريا. رفضت رفضا قاطعا وقالت لي: "احتفظي به، سينفعك في وقت الشدة". شعرت بسرور داخلي لأني كنت أريد أن أحتفظ بالعقد ولأن رفضها بيع العقد عَكـَسَ ما في نفسي، لكن المرض لم يمهلها وماتت بعد شهر من هذا الحوار. شعرت بأنني تقاعست عن إنقاذ حياتها مع أني كنت أستطيع ذلك، وحرمني الندم من النوم، وحين عرفت أن زوجة عمي علي تحتاج إلى عملية عاجلة في القلب سارعت إلى إعطائه العقد لأنقذ حياتها، علني أكفـّر عن تقصيري تجاه أمي.ستطيعأأأأ حياة الإنسان أهم بكثير من جواهر الدنيا كلها".

علق الضابط قائلا: "الأعمار بيد الله وأنت لا ذنب لك في وفاة والدتك".

قالت له وهي تنهض: "شكرا".

-                    

استوقفها قائلا بلهجة ودية: "انتظري يا آنسة لتأخذي عقدك معك".

أجابته بجفاء: "لم يعد عقدي، أصبح ملك عمي علي".

قال الضابط وقد شعر بالحرج: "أنا مدين لك باعتذار، وصلنا إلى حال لم نعد نصدق فيها أن أحدنا يمكن أن يقدم شيئا دون مقابل". وأضاف: "أخي طبيب جراح يجري عمليات القلب في عيادة خاصة، سأوصي أخي بالمريضة ولن يأخذ منها أجرا".

أجابته دون أن تنظر إليه: "على كل حال أنا أعطيته العقد فهو يحتاج إلى مصاريف".

نهض من خلف طاولة المكتب وواجهها قائلا: "دعينا نساهم معك بجزء من الشهامة فنحن أيضا نحب أن نفعل الخير، أما العقد فاتركي الأمر لعمي علي كما تسمينه".

أجابته بفتور: "شكرا لك ولأخيك".

مد يده لمصافحتها قائلا: "تشرفت بمعرفتك". أعطته يدها فصافحها بحرارة مضيفا: "في العادة، نرى كثيرين يسرقون ويقتلون من أجل الجواهر، ومن النادر أن نرى من يجود بالجواهر لينقذ حياة إنسان".

سألته : "هل لي أن أطلب منك معروفا؟"

أجاب:  "بكل سرور ما المطلوب مني؟"

ردت نور: " أن تكلم مدير الجريدة وتعيد الاعتبار لعمي علي".

قال مبتسما: "سأفعل حالا، أعطني رقم هاتف الجريدة".

 *                       

كان يحيى يعرف سبب هجرة سامي إلى أوربا. لم يكن السبب لأنه لم يجد عملا، فهو يعمل مع أبيه في المؤسسة، لكنه يريد الخروج من عباءة أبيه حسب تعبيره. هو يريد أن يؤسس مشروعا تجاريا لنفسه. يريد أن يعمل في ميدان الإعلام الآلي ليساير العصر ولا يريد العمل في الخزف والزجاج. رفض والده تمويل مشروعه فالتجأ إلى والدته واكتشف عجزها عن إقناع والده.، لم تستطع مساعدته فلا حول لها ولا قوة أمام والده، حتى أنها لا تستطيع التصرف بأموالها. أعطى يحيى الحق لسامي في أن يكون طموحا وعصاميا يبني مستقبله بنفسه ودون الاعتماد على أبيه في ديار الغربة.

 *                      

حاول قاضي التحقيق أن يقنع يحيى بالاعتراف بجرمه وبشركائه إن كان له شركاء، قال له: "إذا تعاونت معنا وأعدت المجوهرات فستكون العقوبة خفيفة، هذا إذا نجا حميد العطري من الموت".

دخل حميد منذ ضربه الملثم في غيبوبة، ونقل من إحدى المستشفيات الخاصة بحيدرة إلى مستشفى مصطفى. وأمر وكيل الجمهورية بإيداع يحيى الحبس المؤقت لمدة أربعة أشهر لاستكمال التحقيق وتحويل ملفه إلى محكمة الجنايات ووضع في مؤسسة إعادة التربية في الحراش.

 

لقراءة الفصل التالي انقر هنا: حكاية عمار

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: يحيى الميكانيكي

للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: العرس المشهود

للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا:  الرّوايـات