البــاب الخامس: وصف المكان

من كتاب "فن الكتابة: تقنيات الوصف"

للكاتب: عبد الله خمّار

 

الفصل الرابع

المشاهد الطبيعية

الإنسان والطبيعة:

ارتبطت الطبيعة بالإنسان منذ بدء الخليقة، فقد كانت مسرحا لآماله وآلامه، وكانت أرضها الخضراء والجرداء مهده ولحده، شهدت سهولها ووديانها وجبالها صراعاته، وارتوت بدمه القاني بسبب ما يسميه انتصاراته وبطولاته، وعرفت شطآنها وبطاحها سخافاته وحماقاته، وعايشت أحلامه وطموحاته، وبناءه للحضارات وهدمه لها، وإعلاءه شأن القيم وهزأه بها، وظل جمالها يبهره، وعطرها يأسره، وجودها يخصبه، وشحّها يرعبه، وغضبها يرهبه. وكانت دوراتها الفصلية تجديد للحياة وبعث للأمل، فهي تكتسي كل فصل ثوبا يتغير فيه وجها السماء والأرض، فتتغير القلوب والمشاعر، إن إكتأبا اكتأبت، وإن ضحكا ضحكت، وهكذا يتحد الإنسان بالطبيعة فيصبح جزءا منها. والدنيا تزخر بالمشاهد الطبيعية الخلابة كالشروق والغروب، والبحيرات والشلالات، والبحار والأنهار، والجبال والسهول والحدائق والغابات. ويرتبط المشهد الطبيعي بالزمان والمكان، فالشروق على صفحة البحيرة يختلف عن الشروق في قمة الجبل، والشروق في الصحراء، كما يختلف مشهد الشروق عن الغروب في المكان نفسه.

  وليست المشاهد الطبيعية مجرد أمكنة، ولكنها فضاءات تتصل بها الأرض والسماء، وتسرح فيها العين في تأمل مريح لوديانها وجبالها وجزرها وخلجانها، وغاباتها ومروجها وحدائقها وطيورها.

وتوصف الطبيعة ومشاهدها لغرضين:

ا ـ لذاتها: فهي كالمرأة الفاتنة تستحق أن تطرى ويتغزل المرء بجمالها، لذلك نرى الروائيين الكبار يصفون طبيعة بلدانهم ومشاهدها الساحرة بغية الافتخار بها، وتعريف الناس بمزاياها الخلابة.

2 ـ كإطار نرى من خلاله الأحداث والشخصيات: وفي هذه الحالة كثيرا ما نرى الكاتب يصف الطبيعة كوسيلة للتعبيرعن حالة الإنسان فيربط بين الربيع وبداية شعور البطل بالحب، والخريف وشعوره بالكآبة. كما يربط الكاتب الطبيعة بالأحداث، فالعاصفة تمهد لحدوث خصام وخلاف وانقسام في الرواية، أو تمثل غضب الطبيعة على قتل ملك عظيم، كما نرى ذلك في مسرحيتي شكسبير: مكبث ويوليوس قيصر، حيث قامت عاصفة هوجاء ليلة مقتل الملك دنكن في الأولى ويوليوس قيصر في الثانية. فالعاصفة تعني غضب السماء على ما وقع في الأرض، وفقدان الانسجام والتناغم القائم بينهما. والغروب قد يكون تعبيرا عن الموت مصداقا لقول شاعر القطرين الكبير خليل مطران في قصيدته الرائعة "المساء" عندما كان مريضا:

والشمسُ في شفق يسيلُ نُضارُهُ   فوق العقيق على ذرى سوْداءِ

مرّتْ خلال غمـامتيْن تحـدّرا        وتقطرت كالدمعـةِ الحـمراءِ

فكأن آخـر دمعـة للكون قـد          مُزجت بآخـر أدمعي لرثائي

وكأنني آنسـت يوميَ زائـلاً          فرأيت في المرآة كيف مسائي

                                                                                                       منتخبات الأدب العربي ص 576

ونبدأ أمثلتنا بمشهد من إحدى الحدائق الجميلة في باريس:

حديقة اللوكسمبورغ في الربيع (فيكتورهيغو):

  " في السادس من حزيران، عام 1832، حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، كانت حديقة اللوكسمبوغ، المنعزلة المهجورة، فاتنة. كانت مربعات الأشجار ومساكب الأزهار، تبرز نفسها نحو الضياء في الراتينج العطر وجهر البصر. لقد بدت الأغصان مدلهة بإشراق الظهر، وكأن بعضها يسعى إلى معانقة بعض. كان في شجرات الجمّيز جلبة دُخَّلات، وتهللت الطيور الجواثم، وتسلقت الطيور ثقابات الخشب الكستناء، ناقرة بمناقيرها ثقوب اللحاء. وتقبلت مساكب الزهور ملكية الزنابق الشرعية، فأفخم العطور هو ذلك الذي ينبثق من البياض. كان المرء يستنشق ريّا القرنفل المفلفلة. وطارت جماعات  السنونو على ارتفاع منخفض، وكان ذلك وعدا فاتنا، لقد استنشق من كان هناك ريح السعادة".

  "كانت الحياة حلوة، وكانت الطبيعة كلها تتنفس سلامة النية والغوث، والمساعدة، والأبوة، والملاطفة، والفجر. وكانت الأفكار التي هبطت من السماء ناعمة مثل يد الطفل الصغيرة التي نقبلها".

  "وبفضل الرمل لم يكن ثمة آثار من وحل، وبفضل المطر لم يكن ثمة ذرة من غبار. كانت الباقات قد غسلت منذ لحظة، كانت المخمليات كلها، والأطلسيات كلها، والمينائيات كلها، والذهبيات كلها التي تنبثق من الأرض في شكل أزهار، كانت هذه كلها خلوا من العيب، وكان هذا البهاء نقيا. لقد ملأ الحديقة صمت الطبيعة السعيدة الكبير، صمت سماوي متساوق مع آلاف الألحان، وهدهدات الأعشاش، ودندنات النحل، وخفقات الريح. كان تناغم الموسم كله قد تحقق في كلٍّ واحد لطيف، واتخذت مداخل الربيع ومخارجه أماكنها في النظام الملائم. لقد انتهت الزنابق، وأهلَّ الياسمين. كانت بعض الأزهار قد تأخرت، وكانت بعض الحشرات قد أقبلت قبل إبانها، ولقد تآخت طليعة فراشات حزيران الحمراء مع فراشات نوّار البيضاء، وكانت شجرة الدلب ترتدي جلدا جديدا. وكان النسيم يحفر تموجات في شجرات الكستناء ذات الضخامة الرائعة. كان ذلك متألقا، ولقد نظر جندي عريق من عساكر الثكنات المجاورة عبر الباب الحديدي وقال:

  "هو ذا الربيع تحت السلاح، وفي كامل اللباس الرسمي".

  كانت الطبيعة كلها تتناول طعام الصباح، كانت الخليقة جالسة إلى المائدة، لقد حانت الساعة، ولقد نشر غطاء المائدة الكبير الأخضر فوق الأرض، وأشرقت الشمس ساطعة، وكان الرب يقدم الوجبة الكونية، ونال كل كائن طعامه أو علفه، لقد وجدت اليمامة بزر قنّب، ووجد البرقش ذرة بيضاء، ووجدت الذبابة نقعيّات، ووجد المخروطي المنقار ذباباً، لقد أكل بعضها بعضا، شيئا ما من غير شك، وذلك هو لغز الشر ممتزجا بالخير، ولكن أياً من الحيوانات لم يكن فارغ المعدة".

                                                                                                                     البؤساء (5) ص 85 إلى 87

الطبيعة الحية:

  يبدأ الكاتب وصفه بتحديد الزمان والمكان، ورغم غياب الإنسان لانشغاله بالقتال في شوراع باريس خارج الحديقة، فالطبيعة بعناصرها المختلفة تحس وتتحرك وتتنفس دون أن تشعر بوجوده. ويوحي النص بالحركة منذ البدء، فالأشجار والمساكب تغتسل بعطر الراتينج (ويقال له أيضا عرق الشجر وهو مادة قابلة للالتهاب تنضحها بعض الأشجار مثل الصنوبر والبطم والمصطكي). والأغصان المدلهة تسعى إلى معانقة بعضها بعضا، أما الأشجار فنلمح شجرات الجمّيز أثناء حركة طيور الدُّخل فيها (والدُخَّل طائر صغير يدخل بين رؤوس الشجر والنخل)، كما نرى شجرات الكستناء والنسيم يداعبها، وطيور ثقابات الخشب تنقر لحاءها بمناقرها (ويقال لهذا الطير نقـّار الخشب أيضا). أما شجرة الدلب فتراها وقد بدلت جلدها، وكذلك نرى الزهور عبر الحركة والرائحة، فالزنبق يرتفع في مساكب الزهور ناصبا أعلامه ناشرا عطوره الفخمة. منصِّباً نفسه ملكاً شرعياً عليها برضاها وموافقتها والقرنفل قد تجاوز عبيره حدود الحديقة. والخزامى من ألقت عليها الشمس رداء الأرجوان وباقات الأزهارذات الملمس المخملي الناعم، وذات الملمس الصقيل كقماش الحرير الأطلس، وذات الملمس الناعم واللون اللماع وكأنما طليت بالميناء، وذات اللون الذهبي وقد اغتسلت كلها بماء المطر منذ لحظة فكانت في أبهى حلتها وبلغت حد الكمال، وها نحن نرى الياسمين يحط رحاله بينما يحزم الزنبق أمتعته للرحيل بعد أن فات أوانه.

حركة الطيور والفراشات:

  أما الطيور فبعضها جاثم وبعضها متسلق وبعضها يطير على ارتفاع منخفض كجماعات السنونو، وبعضها مشغول بطعامه كاليمامة والبرقش (طائر لطيف الصوت ملون الريش) والحسّون وأبو الحناء والمخروطي المنقار. وفيما يتعلق بالحشرات فقد التقت فراشات آذار (مارس) البيضاء المودِّعة بفراشات حزيران (جوان) القادمة، أما النحلة والذبابة فكل منهما تبحث عما تأكله، إذ تلعق الأولى الأزهار وتمتص الثانية النقعيات (كائنات ميكروسكوبية حية).

أعذب الأصوات:

  وكل ذلك في ظل صمت علوي سماوي يتناغم مع أعذب الأصوات من هدهدات الأعشاش ودندنات النحل وخفقات الريح وتموجات النسيم ومع إشراق الشمس وروعة الضياء، وقد علق جندي على هذا المنظر الذي رآه من خارج الحديقة بلغته الحربية قائلا: هو ذا الربيع بكامل سلاحــه وعتاده" ، فمن يستطيع أن يقاوم كل هذه الأسلحة الفاتنة؟

  وبالنسبة إلى عناصر الوصف الخارجي فقد استعملها الكاتب برمتها، وقد رأينا منها الحركة التي أخذنا بحيويتها والأصوات التي أطربتنا بعذوبتها.

الأشكال والألوان والأضواء والروائح:

  ونستعرض بعض العناصر الأخرى، حيث نعجب بالأشكال: فالحديقة منظمة وأشجارها على شكل مربعات، وأزهارها مرتبة في مساكب. وتبهرنا الألوان: لون الزنبق الأبيض، ولون الخزامى الأرجواني المذهب، ولون الفراشات البيضاء والحمراء، ولون العشب وهو "غطاء المائدة الكبير الأخضر". وتبهجنا الأضواء: فنجد الأشجار والأزهار "تبرز نفسها  نحو الضياء"، وتتصف الحديقة بعد المطر بالبهاء والتألق، وتبدو الأغصان مدلهة بإشراق الظهر، وتشرق الشمس ساطعة أثناء تناول الطبيعة فطور الصباح. وتنعشنا الروائح: عطر الأشجار "الراتينج" وعطور الزنبق وريّا القرنفل وحتى السعادة نستطيع استنشاق رائحتها: "لقد استنشق كل من كان هناك ريح السعادة".

 

 

الطعوم والملموسات:

  أما بالنسبة للطعوم فمذاقها لا يغرينا ولا يفتح شهيتنا أو يسيل لعابنا، ولكنه يلائم الآكلين من الطيور والحشرات وهو يحتوي على بزر القنّب والذرة البيضاء والرتم (نوع من الشجر من فصيلة القرنيات له زهر شبيه بالمنثور بزره كالعدس) والديدان والنقعيات والذباب. وتداعب أناملنا لمسات الأزهار بنعومة مخملياتها، وصقالة أطلسياتها ولمعان مينائياتها، وبريق ذهبياتها.

  إن هذا النص يخاطب حواس القارئ كلها في البداية، ثم يخاطب عقله في النهاية ليتفكر في لغز هذا الكون وهو امتزاج الشر بالخير.

قواعد وصف المشهد الطبيعي:

  وإذا أردنا استنباط بعض القواعد التي رسمها الكاتب في وصف هذا المشهد الطبيعي الفذ نجد ما يأتي:

1 ـ تحديد الموقع :

 وتسمية حديقة اللوكسمبوغ تكفي فهي معروفة ومشهورة في باريس.

2 ـ تحديد الزمن بالدقة:

اليوم والشهر والسنة والساعة.

3 ـ غياب الإنسان:

 فالطبيعة ماثلة بعناصرها المختلفة وهي لا تحس بوجوده لأنها مستغنية عنه والحديقة مهجورة. ومع أنه منشغل عنها بالاقتتال فهو يحس بوجودها حيث نرى جنديا عريقا يعلق على هذا المنظر البديع.

4 ـ استخدام معظم عناصر الطبيعة في الوصف:

 الشمس، الريح، الفجر، السماء، النسيم، المطر، الرمل، الوحل، الغبار، الأشجار والأغصان، والأزهار، الطيور والحشرات، يضاف إلى ذلك الإنسان ( يد الطفل الصغير).

5 ـ دقة الوصف: فالوصف ليس عاما إذ أن الكاتب يحدد لنا بعض أنواع الأشجار الموجودة على شكل مربعات في الحديقة: الجمّيز والكستناء والدلب وبعض الزهور التي تحويها مساكبها: الزنبق والقرنفل والياسمين والخزامى، وبعض طيورها: الدخَّل، البرقش، ثقاب الخشب، اليمام، السنونو، الحسّون، أبو الحنّاء، المخروطي المنقار، وبعض حشراتها: النحل، فراشات نوار البيضاء. فراشات حزيران الحمراء، الذبابات، وبعض المخلوقات الأخرى كالديدان والنقعيات، والحبوب كبزر القنب والذرة البيضاء والرتم. ونستنتج من هذا النص أن الوصاف يجب أن يكون ملما بأشجار وأزهار وطيور منطقته ليستطيع وصفها، فالربيع كما نعلم هو في كل مكان يعني تفتح الزهور واخضرار الأشجار وتغريد الطيور وتحويم الفراشات. ولكن أنواع هذه الزهور والأشجار والطيور والفراشات تختلف من منطقة إلى أخرى، وما يعطي للوصف أهميته  هو ارتباطه بخصوصية المشهد الطبيعي وبما تميز به عن غيره من المشاهد المماثلة:

6 ـ استعمال جميع عناصر الوصف الخارجي استعمالا رائعا ونترك للتلميذ استخراجها والتعليق عليها.

غرض الوصف:

 يصف الكاتب الحديقة كإطار لأحداث ستجري فيها بعد قليل، ولكنه ينتهز الفرصة ليمتعنا بجمالها الأخاذ، وفي الوقت نفسه يظهر التناقض بين ما يجري في الحديقة، من حلاوة وسلامة نية وبين ما يجري خارجها من تقاتل وسفك دماء. وإضافة إلى ذلك ينتقل بنا من رومانسية المشهد، إلى معنى فلسفي عميق تجسده واقعية الحياة في الحديقة، حيث يمتزج الشر بالخير، فلا بد عند البحث عن القوت أن يفترس كل من المخلوقات الآخر، فغرض النص ليس واحدا إذن، فهو: جمالي وفلسفي وإطار للحدث الوشيك الذي سيجرى في الحديقة.

8 ـ العاطفة:

عاطفة الكاتب تجاه الطبيعة عاطفة فياضة فهو يراها حية تحس وتتحرك وتتنفس، وتتصف بسلامة النية واللطف والنعومة. وهو معجب ببهائها وإشراقها وتناسق ألوانها وتناغم أصواتها وطيب روائحها. وقد جعلنا نتعاطف معها ونحس بأرق وأجمل الأحاسيس من حب وإعجاب.

 وننتقل إلى نص آخر في وصف الغابة ولا نراها بعين الكاتب كما رأينا حديقة اللوكسمبورغ بل بعين أحد أبطال الرواية آندره:

السنديانة ( تولستوي):

  "وذهب في ربيع 1908 إلى أراضي ديازان التي كانت ملكا لابنه، وهو وصي عليه. فكان وهو في عربته، تحت الأشعة الدافئة التي ترسلها شمس الربيع، ينظر إلى أول العشب، وأولى أوراق أشجار البتول، وأولى غمامات الربيع البيض المنتشرة على صفحة السماء اللازوردية، كان لا يفكر في شيء، ولكنه يدع بصره أن يطوف حواليه فرحا".

  "اخضوضر كل شيء منذ الآن بهذه السرعة كلها! وأشجار البتول، وأشجار كرز الطير! وهذه أشجار المقن قد بدأت أيضا... ولكن أين أشجار السنديان؟ ها... هذه سنديانة!

  كانت سنديانة تنتصب سامقة على حافة الطريق. لا شك أنها أكبر سنا من أشجار السندر عشر مرات، وأضخم منها عشر مرات، وأعلى منها مرتين. إنها سنديانة كبيرة لا يستطيع أن يحتضنها إلا شخصان اثنان؛ أغصانها تكسرت منذ فترة طويلة؛ وقشرتها المكشوطة مغطاة بندوب قديمة، أذرعها وأصابعها الضخمة العقفاء الخرقاء الممدودة بغير تناظر تجعلها تنتصب بين أشجار البتول البسامة الضاحكة أشبه بغول عجوز غاضب مبغض محتقر. كانت وحدها رافضة أن تستسلم لسحر الربيع وأن تنقاد لفتنته، ولا تريد أن ترى لا ربيعا ولا شمسا. كانت كأنها تقول: "الربيع، الحب، السعادة؟ كيف لم تسأموا من هذا الخداع المتكرر الأبدي؟ ألا ترون أن ذلك كله ليس إلا غشا؟ لا ربيع ولا شمس ولا سعادة! انظروا إلى شجيرات الصنوبر هذه المختنقة الميتة التي لا تتغير لها حال! ولطالما حاولت أنا أيضا أن أبسط أذرعي، وأصابعي العقفاء والقشراء تخرج من ظهري وتطلع من جنبي وتنبت أنى تشاء أن تنبت، وأبقى على حالى حيث أنا لا أتغير ولا أتبدل، فلست أؤمن بآمالكم وأكاذيبكم!؟

  التفت الأمير آندره عدة مرات إلى هذه السنديانة أثناء اجتيازه الغابة ليراها كأنه ينتظر من رؤيتها شيئا. كان في ظلها أزهار ملونة وعشب أخضر، ولكن ذلك لا يمنعها من أن تصر على تجهمها وجمودها وفظاظتها وشراستها.

  فقال الأمير أندره محدثا نفسه: "نعم، إنها على حق هذه السنديانة! ألا فلتنطل الخديعة على الشبان بدورهم! أما نحن فقد بلونا الحياة وعرفناها، لقد انتهت حياتنا نحن".

                                                                                                              الحرب والسلم (2) ص 323 ـ 324

الزاوية التي ينظر منها الوصاف:

  أول ما نلاحظه في هذا الوصف هو مكان الوصاف حيث لم يكن واقفا في الغابة يـتأملها بل كان في عربة متحركة لا تسمح له أن يرى الأشياء بدقة وأن يصفها بالتفصيل كما فعل هيغو، بل يعدد لنا ما يراه والعربة مسرعة. وقد حدد لنا بالطبع زمن الوصف ومكانه، فالزمن نهار ربيعي قد أشرقت أشعته الدافئة، والمكان غابة من أراضي ديازان (وهي عاصمة مقاطعة تقع في الجنوب الشرقي من موسكو). ونلاحظ الفرق بين تحديد الزمان والمكان في نصي هيغو وتولستوي ، فالأول يحدده بالساعة واليوم والشهر والسنة والثاني يحدده بالسنة والفصل. أما المكان فحديقة اللوكسمبورغ معروفة ومحددة وأما الجزء الذي يصفه تولستوي من الغابة فلا يعرف في أي جزء من هذه الأراضي الواسعة، ثم نقرأ النص فنجد أنه لا أثر للطيور أو الفراشات، وحتى الأزهار نرى وصفا عاما لها في أواخر النص : " كان في ظلها أزهار ملونة وعشب أخضر".

الأشجار الحرجية في روسيا:

  ويصف الكاتب لنا بعض الأشجار: البتول والسندر وكرز الطير (وهي أشجار حرجية جيدة الخشب تشتهر بها روسيا) والسنديان والصنوبر". أيكون هذا بسبب إسراع العربة؟ بالطبع لا، لأنه يتريث في وصف السنديانة الكبيرة المكسرة الأغصان والمكشوطة القشرة، والتي تغطيها الندوب وقد رفضت أن تستسلم لسحر الربيع. هذه السنديانة التي تتحدث أو كأنها تتحدث لتقول: إن "الربيع والحب والسعادة" غش وأكاذيب؛ وأنا لا أؤمن "بآمالكم وأكاذيبكم"! لقد قلنا إننا نرى المشهد بعين آندره لا بعين الكاتب.

حالة آندره النفسية:

  هل هي حالة السنديانة حقا أم حالة الأمير آندره؟ من منهما الكئيب حقا والذي لم يدفئ قلبه سحر الربيع؟ هذا ما يسمى بالتعبير النفسي "الإسقاط". لقد كان الأمير آندره كئيبا ولم تستطع هذه الخضرة وهذا الإشراق وهذا الدفء، أن تغزو قلبه البارد الجامد (حيث أنه فقد زوجته أثناء الولادة)، فأسقط كآبته على السنديانة وكأن لسان حالها يقول ما يريد أن يقوله هو. إنها تمثله وهو يتصور نفسه عجوزا. لذلك قال: "فلتنطل الخديعة على الشبان بدورهم! (كما انطلت علينا من قبل)، أما نحن فقد بلونا الحياة وعرفناها، لقد انتهت حياتنا نحن".

غرض الوصف:

  فغرض الوصف إذن هو أن يعرفنا الكاتب بحالة آندره النفسية فاستخدم وصف الغابة في الربيع، واستخدم السنديانة العجوز ليبين لنا مدى كآبة أندره وزهده في الحياة.

قواعد وصف المشهد:

  وإذا أردنا استنباط القواعد التي رسمها الكاتب في هذا الوصف وجدنا ما يأتي:

1 ـ حدد الموقع: غابة في أراضي ديازان.

2 ـ الزمان: ربيع 1809.

3 ـ حدد موقع الوصاف: في العربة.

4 ـ استخدم عناصر قليلة من الطبيعة في الوصف: شمس الربيع، العشب، السماء اللازوردية والأزهار الملونة والعشب الأخضر، وكذلك الأشجار التي تشتهر بها الغابات في روسيا: أشجار البتول وكرز الطير والمقن والسنديان والصنوبر.

5 ـ لا يهتم بدقة الوصف: فيما عدا السنديانة التي يهتم بوصفها.

6 ـ لا يهتم باستعمال عناصر الوصف الخارجي إلا ما ورد عفوا كالألوان والضياء.

7 ـ غرض الوصف: وهنا بيت القصيد، فحالة السنديانة هنا تمثل حالة الأمير آندره، وما قالته تجسد رأيه في تلك اللحظة، فغرض الوصف ليس جماليا كما رأينا عند فيكتور هيغو، ولا هو إطار للأحداث، ولكنه تجسيد للحالة النفسية التي يمر بها البطل، وقد آثر الكاتب ألا يقولها لنا في كلمات بل أن يشخصها في حالة السنديانة.

8 ـ العاطفة: لا شك بأننا نتعاطف مع الأمير آندره ونشفق عليه ونتمنى أن يخرج من هذه الحالة في أقرب وقت.

  وهذا نص آخر يصف لنا قدوم الربيع:

الربيع في المدن (محمد ديب):

  "ولد الربيع في ليلة، انبثق انبثاقا مفاجئا: سيول من الضياء تتدفق بعد ذلك الظلام الطويل. المدينة تفتح رئتيها وقد تخلصت من الثقل الذي كان جاثما على صدرها. أوراق الأشجار عادت تنبت على الأغصان السود التي غشيتها رغوة خضرء، والنهار استرد دفئه الجميل. الناس يرفعون أنوفهم في الهواء متطلعين إلى بشائر الخير في إشراقة الشمس وأولى زقزقات العصافير.

  وظهر المتسولون في أيام الربيع هذه أعجب وأرهب مما ظهروا قبل ذلك. هم عاشوا حتى الآن. وكيف؟ لا يستطيع أحد أن يعرف ذلك. إنهم يتسكعون في الشوارع، وقد اكتست وجوههم هيئة من يتذكر شيئا نسيه منذ زمان بعيد، يسيرون في حذر، لا ينظرون إلى أحد، يمسون الناس دون أن يروهم.

  وحدث في الكهف شيء من الفتور، اضطرب النشاط، واضطربت الأصوات. الحائكون ما يزالون يعملون على أنوالهم في همة. غير أن بعضهم أخذوا، على حين فجأة يغنون بصوت جهير. لقد تسللت إلى الجو المحصور الخانق نشوة صعدت إلى رؤوس العمال".

                                                                                                            الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 441

الربيع في المدينة:

  قدوم الربيع في الريف أو في الحدائق الكبرى تصحبه تغيرات في الأرض وفي الطبيعة، أما قدومه في المدينة، فهو يحدث تغييرا من نوع آخر. يخرج الناس إلى الشوارع وقد تخففوا من أرديتهم الصوفية الغليظة، واستبدلوا بها ألبسة خفيفة، ذات ألوان زاهية، وتفتح النوافذ، وتتسلل روائح الزهور من حدائق البيوت، وتنبض قلوب بعض الشباب والصبايا بالحب لأول مرة. لكن ربيع تلمسان زمن الاستعمار هو ربيع بائس، احتل فيه المتسولون الذين هجروا الريف نتيجة قحط الأرض، وظلم المستوطنين الفرنسيين شوارع المدينة. أما الكهف الذي يعمل فيه عمر على النول مع بقية العمال فقد غزاه الربيع باحتشام، ووصلت نشوته إلى رؤوس العاملين في الكهف. ورفع الناس أنوفهم مستبشرين به ولكنه لم يغير من واقعهم المرير شيئا، بل على العكس زاد على مشاكلهم مشكلة المتسولين.

الغرض سياسي وليس جماليا:

  إن مشهد الربيع هنا هو مجرد إطار لتعاقب الزمان الذي يغير من أحوال الناس دائما نحو الأسوأ في ظل الاحتلال السياسي والظلم الاجتماعي، فالغرض من الوصف ليس جماليا، لذلك لم يتوسع الكاتب في وصفه. إن فتنة الربيع هي إطار جميل يتناقض مع الأحداث الأليمة التي تحدث فيه، تناقض الإطار الجميل الزاهي مع اللوحة الكيئبة السوداء.

  وحين تستخدم المشاهد الطبيعية كإطار، سواء أكان هذا الإطار منسجما مع اللوحة أم مناقضا لها فلا يتوسع الكاتب في الوصف ولا يهتم بدقته بل يورده في جمل قليلة تفي بالغرض، كمقدمة للأحداث أو ديكور لها.

تمرين 1 : إقرأ وصف الطيب صالح للنيل ثم أجب عن الأسئلة التي تليه:

  "تتابعت الأعوام، عام يتلو عامأ، ينتفخ صدر النيل، كما يمتلئ صدر الرجل بالغيظ، ويسيل الماء على الضفتين، فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء. عند أسفل البيوت تنق الضفادع بالليل، وتهب من الشمال ريح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من أريج زهر الطلح ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل. وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر، يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر، والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة، فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودق طبوله، وعزف طنابيره ومزاميره كأنه إلى يمين دارك. ويتنفس النيل الصعداء، وتستيقظ ذات يوم فإذا صدر النيل قد هبط وإذا الماء قد انحسر على الجانبين، يستقر في مجرى واحد كبير يمتد شرقا وغربا، تطلع منه الشمس في الصباح وتغطس فيه عند المغيب. وتنظر فإذا أرض ممتدة ريانة ملساء ترك عليها الماء دروبا رشيقة مصقولة في هروبه إلى مجراه الطبيعي. رائحة الأرض الآن تملأ أنفك، فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح. الأرض ساكنة متبلة، ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم، الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق، هو ماء الحياة والخصب، الأرض مبتلة متوثبة، تتهيأ للعطاء، ويطعن شيء حاد في أحشاء الأرض، لحظة نشوة وألم وعطاء، وفي المكان الذي طعن في أحشاء الأرض، تتدفق البذور، وكما يضم رحم الأنثى الجنين في حنان ودفء وحب، كذلك ينطوي باطن الأرض على حب القمح والذرة واللوبيا وتتشقق الأرض عن نبات وتمْر".

                                                                                                                             عرس الزين ص 48

الأسئلة:

1 ـ لماذا لم يحدد الكاتب زمن  الوصف في رأيك؟

2 ـ ما القواعد التي استخدمها في هذا الوصف؟

3 ـ ما عناصر الوصف الخارجي التي استعملها الكاتب؟

4 ـ ما غرض هذا الوصف؟ هل هو جمالي؟ أم إعجاب بنهر النيل وعطائه؟ أم إطارللحدث؟

5 ـ ما عاطفة الكاتب نحو النيل؟ وهل استطاع أن ينقلها إلينا؟ وكيف؟

تمرين 2 :

  إقرأ النص الآتي ثم أجب عن أسئلته:

أوليفر والطبيعة ( تشارلز ديكنز):

  "واستيقظ "أوليفر" صباح اليوم التالي وهو أبهج نفسا، وشرع يؤدي مهامه الصباحية المعتادة، وقد أفعم صدره بأمل وحبور لم يعرف لهما ضريباً منذ أيام عديدة. كانت الطيور قد علقت كرة أخرى لتشدو وتغرد في مواطنها القديمة. وجمعت أزكى الرياحين البرية التي كان في إمكان المرء أن يعثر عليها لتبهج "روز" بجمالها كرة أخرى وتبددت بمثل السحر تلك الكآبة التي كان قد بدا لعيني الغلام القلق المحزونتين أنها رانت، طوال أيام خلت على الأشياء كلها، مهما كانت بهية الطلعة جميلة. لقد بدا الندى وكأنه يتلألأ على نحو أشد تألقا فوق الأوراق الخضر، والهواء وكأنه ينساب بينها بموسيقى أعذب، وحتى السماء نفسها بدت وكأنها أشد زرقة وإشراقا. ذلك هو السلطان الذي تمارسه طبيعة أفكارنا الشخصية حتى على مظهر الأشياء الخارجية. إن أولئك الذين يرون إلى الطبيعة وإلى إخوانهم في الإنسانية ثم يصرخون قائلين: "إن كل شيء مظلم وكئيب" ليسوا بمخطئين، ولكن الألوان القاتمة هي انعكاسات لعيونهم وقلوبهم المريقنة. أما الألوان الحقيقية فرقيقة، وهي تحتاج إلى بصر أشد صفاء".

                                                                                                                      أوليفر تويست (2) ص 91

الأسئلة:

1 ـ ما غرض هذا الوصف؟ هل هو جمالي أم إطار للحدث؟ أم تعبير عن حالة أوليفر النفسية ؟ علل إجابتك.

2 ـ ما القواعد التي استخدمها الكاتب في هذا الوصف؟

3 ـ هل تحس بالتعاطف في هذا النص مع الطبيعة أم مع الغلام؟ علل إجابتك وحدد العاطفة التي تحس بها نحو أحدهما أو كليهما.

تمريـــن 3 :

  استخرج من الرواية التي تطبق عليها مشهدا طبيعيا أو أكثر مبرزا القواعد التي رسمها الكاتب في وصفه، واستعماله لعناصر الوصف الخارجي.

تمرين 4 : اختر موضوعا أو أكثر مما يأتي:

1ـ صف حديقة أو غابة في مدينتك أو منطقتك في الربيع محددا الموقع وزمن الوصف، وضَمِّنْ وصفك الأشجار والأزهار والطيور والحشرات التي تتضمنها الحديقة أو الغابة، مستعملا عناصر الوصف الخارجي. (استعلم عن أسماء الأشجار والأزهار والطيور والحشرات التي تراها لتستطيع تسميتها ووصفها).

2 ـ صف الحديقة أو الغابة نفسها في الخريف وبالطريقة ذاتها.

3 ـ صف منظر الشروق في منطقتك موضحا ما تحتويه بقية اللوحة من أبنية وطبيعة مستعملا ما تحتاجه من عناصر الوصف الخارجي.

4 ـ صف منظر الغروب في منطقتك بالطريقة نفسها.

5 ـ صف مشهدا طبيعيا تتميز به منطقتك سواء أكان بحيرة أو خليجا أوشلالا، أو قمة جبل أو غير ذلك مستعملا قواعد وصف المشهد وما يستلزمه من عناصر الوصف الخارجي.

 

لقراءة مصادر ومراجع كتاب فن الكتابة انقر هنا: المصادر والمراجع

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الثالث: وصف القرية - وصف المدينة

للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا: فن الكتابة: تقنيات الوصف