البــاب الثاني: الوصف الخارجي للأشخاص

من كتاب "فن الكتابة: تقنيات الوصف"

للكاتب: عبد الله خمّار

 

الفصــل الأول

مظاهر الوصف الخارجي

لقد تزودنا بعناصر الوصف ولكن قبل أن نبدأ برسم لوحتنا الأولى وهي وصف الأشخاص، نحاول أن نستفيد من خبرة الروائيين المتمرسين. فمن أراد أن يتعلم أصول حرفة من الحرف وأن يتقنها فعليه أن يتتلمذ على أيدي المعلمين البارعين في ميدانها، والمشهورين لدى الخاص والعام بطول الباع فيها، ومعرفة مغاليقها وأسرارها. ومن أراد أن يتعلم فن الوصف فعليه أن يتأمل أعمال النخبة من الروائيين. يقرأ لهم بإمعان ويحاول فهم التقنيات التي يتبعها كل منهم، ليكتسب ما استطاع من خبراتهم ومن مهارتهم. وسنحاول الاعتماد على نصوص لبعض الروائيين المبدعين، قديمهم وحديثهم واكتشاف قاسم مشترك بينهم في القواعد التي اتبعوها، ليسهل على القارئ المتعلم أن يبدأ الكتابة مقلدا، ثم مبدعا صانعا لنفسه أسلوبا يظل يصقله باستمرار. وربما أصبح إن كانت لديه الموهبة، واتصف بالمثابرة روائيا كبيرا يشار إليه بالبنان.

كيفية الوصف الخارجي:

  الإنسان مظهر ومخبر، وهو جسم وعقل ووجدان. فالجسم مظهره الخارجي، والعقل والوجدان باطنه الداخلي. ولكنه كل لا يتجزأ، ولا يمكن فصل شخصيته إلى جزئين. ووصف الشخصية يشمل الاثنين معا، ويربط بينهما ربطا محكما. ولكننا لأسباب دراسية محضة نقسم الوصف إلى قسمين خارجي وداخلي ليسهل على المتعلم وصف كل منهما على حدة ثم الربط بينهما عند وصف الشخصية كاملة.

الوصف الحقيقــي:

  ونتساءل قبل أن نبدأ بالأمثلة، هل هناك فرق أو فروق بين الوصف الحقيقي والوصف الروائي؟ لنبدأ بالوصف الحقيقي الذي كثيرا ما نجده في سير وتراجم الشخصيات مستشهدين بمثال عن الوصف الخارجي للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لعباس محمود العقاد:

  "قال واصفوه وهو في تمام الرجولة إنه كان رضي الله عنه ربعة أميل إلى القصر، آدم ـ أي أسمر ـ شديد الأدمة، أصلع مبيضّ الرأس واللحية طويلها، ثقيل العينين في دعج وسعة، حسن الوجه واضح البشاشة، أغيد كأنما عنقه إبريق فضة، عريض المنكبين لهما مشاش (رأس العظم) كمشاش السبع الضاري لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا. وكان أبجر أيْ كبير البطن، يميل إلى السمنة في غير إفراط، ضخم عضلة الساق مستدقها، ضخم عضلة الذراع، ششن الكفين، يتكفأ في مشيته، يميل على نحو يقارب مشية النبي (صلى الله عليه وسلم). ويقدم في الحرب فيقدم مهرولاً لا يلوي على شيء".

                                                                                                                عبقرية الإمام علي  ص 14

أهــم مزايا الشخصية:

  إذا اختصرنا التفاصيل رأينا أن الواصفين يركزون على أمور أربعة تميز مظهر سيدنا علي: اعتدال القامة وسمرة اللون والوسامة وقوة الجسم، ورغم أننا بشوق لنعرف كل التفاصيل عنه، إلا أن الواصفين لم ينقلوا لنا لون العينين ولا شكل الأنف أو الفم أو الذقن أو الخدين أو الجبين، واكتفوا بسعة العينين وحسن الوجه، لأن أهم قاعدة من قواعد الوصف هي أن تبرز أهم صفات الشخصية وما يميزها عن غيرها. فالعيون السود في بيئة العيون السود ليست صفة مميزة، ولكن العيون الزرق في بيئة العيون السود تلفت النظر، وكذلك العيون السود في بيئة العيون الزرق. ولا يهتم الكاتب بوصف الفم والأنف والجبين والخدين والذقن، إذا كان كل منها عاديا، ولكنه يهتم بتناسقها فيظهر حسن الوجه أو قبحه، وإنما يهتم بالتفاصيل حين تكون ملفتة للنظر كطول العنق وجماله: "كأنه إبريق فضة".

  وهذا مثال آخــر عن الوصف الحقيقي في الترجمة الذاتية وهو للكاتب  الروسي تولستوي يصف أباه:

  " إنه رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، له مشية غريبة، قصيرة الخطى. وله أثناء سيره حركة شاذة، هي أنه يقدم كتفه إلى أمام. عيناه ضاحكتان دائما، أنفه كبير أقنى، شفتاه تنطبقان انطباقا غير مستقيم، لكنه ظريف محبب. في نطقه عيب فهو يزأزئ. رأسه أصلع كل الصلع. تلك كانت خصائص أبي، إذا صدقت الذاكرة".

                                                                                                    الطفولة. المراهقة، الشباب ص 125

التركيز على مزية أو عيب:

  يصف لنا الكاتب أباه من الذاكرة، وبعد سنوات طويلة من موته، فماذا بقي في ذاكرته من مظهره الخارجي:

  1ـ طول قامته، ومهابة طلعته، وهما مزيتان في الشخصية.

  2 -حركته الشاذة في تقديم كتفه أثناء السير، وانطباق شفتيه انطباقا غير مستقيم، وزأزأته وهذه عيوب بسيطة ولكنها ملفتة للنظر.

  3 - مشيته الغريبة وأنفه الكبير الأقنى وعيناه الضاحكتان ورأسه الأصلع، وهي ليست مزايا ولا عيوبا ولكنها علامات فارقة تميزه عن غيره.

  ونلاحظ بأن تولستوي لم يبين لنا لون عيني أبيه، ولا اتساعهما أو ضيقهما، ولا ملامح وجهه، ولا طول رقبته، واهتم بالأنف والشفتين لأنها مميزة، وإذن فقد رسم المعالم العامة في الشخصية.

  ونجد في الوصفين الأبعاد والأشكال في وصف الجسم، والحركة في وصف مشيتي الشخصيتين، كما استعمل الواصفون اللون في وصف الإمام علي، واستخدم تولستوي الصوت ( الزأزأة ) في نصه.

الانتقال من العام إلى الخاص:

  كما نجد أن الوصفين بدآ بالعام وهو طول القامة، وانتقلا إلى الخاص بادئين بما يميز الشخصية الموصوفة عن غيرها من محاسن أو عيوب. فالوصف المتميز ليس المفصل أو الدقيق،  ولكنه الذي يعطيك سمات الشخصية التي تنطبع في الذاكرة مهما كان الزمن. ولكي نختبر حيوية الوصف، نغمض أعيننا ونتخيل ما وصفه الكاتب، فإذا دبت الحياة فيه فالوصف جيد، أما إذا لم نستطع تخيله، فهو مجرد كلمات من حبر على ورق.

الوصـــف الروائي:

  ولننتقل الآن إلى الوصف الروائي لنرى إن كان هناك توافق بين الوصفين، ولنأخذ هذا المثال:

 

حمــد ود الريّس (الطيب صالح):

  "وملس ود الريس شاربيه المقوسين بعناية إلى أعلى، طرفاهما كحد الإبرة، ثم أخذ يمسح بيده اليسرى لحيته الغزيرة البيضاء التي تلبس وجهه من الصدغ إلى الصدغ، ويتنافر لونها الأبيض الناصع مع سمرة وجهه كلون الجلد المدبوغ، فكأن اللحية شيء صناعي ألصق بالوجه. ويختلط بياض اللحية دون مشقة ببياض العمة الكبيرة، مقيما إطارا صارخا يبرز أهم معالم الوجه: العينين الجميلتين الذكيتين، والأنف المرهف الوسيم. والريس يستعمل الكحل متذرعا بأن الكحل سنة. لكنني أظن أنه يفعل ذلك زهوا. كان في مجموعه وجها جميلا ".

                                                                                                        موسم الهجرة إلى الشمال ص 89

الانتقال من الخاص إلى العام:

  "بدأ الكاتب بالحركة ليكون وصفه أكثر حيوية فجعل يدي شخصيته تمتدان إلى شاربيه ليملسهما، ويمسح باليد اليسرى لحيته البيضاء التي يتنافر لونها مع لونه الأسمر، ثم وصف لنا اتصال بياض اللحية التي تصل إلى الصدغين بالعمة البيضاء، وجعل هذا اللون الأبيض إطارا لملامح الوجه التي لم يغطها الشعر؛ العينين والأنف، لأن شعر الرأس تغطيه العمة. أما الخدان والأذنان والفم والذقن فتغطيهما أو تحجبهما اللحية.

  هناك إذن مزيتان: العينان الجميلتان الذكيتان، والأنف المرهف الوسيم، وهناك عيب وهو تنافر لون اللحية الأبيض مع لون البشرة الأسمر، وهناك علامة فارقة وهي الشاربان اللذان طرفاهما كحد الإبرة والعمة الكبيرة التي يلبسها. وقد استعمل الكاتب من عناصر الوصف: الأشكال (الشاربين المقوسين، طرفاهما كحد الإبرة، الإطار). والألوان: اللونين الأبيض والأسمر. كما استعمل تقنية الحركة فقدم لنا ود الريس و هو يلمس شاربيه ولحيته. ونغمض أعيننا ونتخيل "ود الريس" كما فعلنا بالمثال الأول، فنجد أن شخصيته تبعث في مخيلتنا من لحم ودم.

بعض قواعد الوصف الخارجي:

  ونستنتج من خلال هذه الأوصاف الثلاثة بعض القواعد الهامة:

  1 - التركيز في الوصف على ما يميز الشخصية عن غيرها، سواء أكان ما يلفت النظر فيها عيبا أم مزية. ولا يضخم الوصاف هذه الصفة كرسام الكاريكاتير، بل يبرزها ليجعلها نقطة ارتكاز ينطلق منها في رسم معالم الشخصية. وسواء أكانت الشخصية حقيقية أم روائية، لا نصفها كما توصف في محاضر الشرطة، أو في تذكرة الهوية هكذا:" الطول: 170 سم، العينان: عسليتان، الشعر: أسود، لون البشرة: حنطي ... الخ، وإنما نبحث فيها إن كانت حقيقية عن شيء يميزها عن الآخرين، كشدة الطول أو التناهي في القصر، الإفراط في السمنة أو ضآلة الجسم، كثافة الشعر أو الصلع، ضخامة الصوت التي لا تنسجم مع نحول الجسم، أو رقة الصوت التي تتنافر مع ضخامته، وحمة كبيرة في الوجه أو الجبين، آثار جدري أو حروق أو ندوب في الوجه، الضحك الدائم أو العبوس الدائم، حركة غريبة دائمة للرأس أو الجسم، التأنق الشديد في الهندام أو إهماله، إلى ما لا نهاية له من المزايا والعيوب والعلامات الفارقة التي يتميز بها الإنسان عن غيره، وحتى عن أخيه التوأم. أما إن كانت الشخصية روائية من نسج الخيال، فنحاول أن نميزها عن غيرها في الوصف الخارجي بإبراز صفة أو صفات تنسجم مع الأبعاد النفسية والاجتماعية والخلقية لهذه الشخصية، ولا تتنافر مع أحداث القصة أو الرواية.

  2 - الانطلاق من العام إلى الخاص، أو من الخاص إلى العام، وقد لاحظنا في النصين الأول والثاني أن الوصف انتقل من العام إلى الخاص بينما لاحظنا في النص الثالث أن الطيب صالح انطلق في وصفه من الشاربين أي من الجزء إلى اللحية فالعمة فمعالم الوجه، وهكذا نرى أننا نستطيع أن نبدأ وصفنا بالكل لننتقل إلى الجزء أو العكس؛ إذ يمكن أن يبدأ الكاتب في أي مكان في الجسم؛ الشعر أو العنق أو العينين أو الفم، لينتقل من الجزء إلى الكل.

  3 - استعمال بعض عناصر الوصف المحسوسة التي يحتاج إليها الكاتب في وصف شخصيته. ويختار منها ما يلائمه من الأشكال والألوان والأصوات والروائح والطعوم والملموسات، وقد لاحظنا ذلك في الأمثلة الثلاثة.

تمرين تطبيقي:

  وقبل أن نواصل الحديث عن الوصف الخارجي، نورد مثالين، ونطلب من القارئ التمعن فيهما والإجابة عن الأسئلة التي تعقب كل نص منهما ليتأكد من فهمه للعناصر الثلاثة الأولى في وصف الشخصية:

1 - رومانوفنا الجميلة (دوستويفسكي):

  لقد كانت أفدوتيا رومانوفنا جميلة بشكل ملحوظ، وكانت طويلة القامة، منسجمة القد، وكان فيها من القوة والثقة، ما يبدو في كل حركة من حركاتها، دون أن يؤثر ذلك في رقتها ووداعتها.

  كانت ملامح وجهها تشبه ملامح وجه أختها، وكانت عيناها سوداوين تقريبا، مزهوتين، لامعتين، وفي الوقت نفسه عامرتين بالرقة والخير. وكانت شاحبة الوجه، ولكن شحوبها لم يكن مسقاما، وكان وجهها يعكس الإشراق والعافية. أما فمها، فكان منمنما جدا، وشفتها السفلى، مشرقة، موردة، وبارزة إلى الأمام كبروز ذقنها أيضا، وهو العيب الوحيد في ذلك الوجه الجميل، إلا أنه كان يضفي عليها طابعا شخصيا من الصرامة، وكذلك من الترفع، ربما.

  وكانت ملامح وجهها تدل على التفكير والرزانة، أكثر من البشاشة، ولكن أي سحر يبدو في تلك الابتسامة المرتسمة على وجهها!! وكم كانت ضحكتها وبشاشتها وفتوتها، ومرحها، تلبق لها (أي تلائمها)".

                                                                                                             الجريمة والعقاب(2) ص 305

  - ما أهم الميزات والعيوب التي ركز الكاتب وصفه عليها؟ وهل وفق في وصفه؟

  - هل بدأ بالعام وانتقل إلى الخاص أم العكس؟ وضح ذلك.

  - ما عناصر الوصف التي اعتمد عليها الكاتب في وصفه: (الأشكال والألوان، الأضواء والظلال، الأصوات.. الخ ..).

  - هل كان وصفه حسيا وخارجيا بحتا، أم أنه امتزج بالوصف النفسي؟ بين ذلك بأمثلة.

  - تحدث عن لغة الترجمة من حيث الوضوح والدقة ونقل الصور البيانية إلى اللغة العربية موضحا ذلك بأمثلة.

 2 ـ  المفتش جافير (فيكتور هيغو):

  "كان وجه جافير البشري يتألف من أنف أفطس، ذي منخرين عميقين يحيط بهما شاربان ضخمان كثيفان، يغطيان خدّيْه جميعا. وإن المرء ليأخذه شيء من الضيق حين يرى أول مرة إلى هاتين الغابتين وهاتين المغارتين. وكان جافير إذا ما ضحك ـ وهو شيء نادر وفظيع ـ تنفرج شفتاه الرقيقتان، وتنكشفان، لا عن أسنانه وحسب، بل عن لثته أيضا. وحول أنفه كانت ثنية عريضة ووحشية، كتلك التي تكون حول خطم الأيل أو الظبي. كان جافير، إذا ما غلبت عليه الصرامة، كلبا من كلاب درواس الشرسة الطباع، الغليظة الرأس، وكان إذا ما ضحك نمرا، وفي ما عدا ذلك كان ذا رأس صغير، وفكين ضخمين، وشعر يخفي الجبهة، وينوس فوق الحاجبين، وعبسة بين العينين مركزية سر مدية، كأنها نجم الغضب، ونظرة قاتمة، وفم مطبق مروع، وسيما (علامة) من السلطة الضارية".

                                                                                                               البؤساء (1) 290 المجلد الأول

  - ما أهم الميزات والعيوب التي ركز الكاتب وصفه عليها؟ وهل وفق في وصفه؟

  - هل انتقل في وصفه من العام إلى الخاص أم العكس؟ وضح ذلك.

  - ما عناصر الوصف التي اعتمد عليها الكاتب في وصفه؟

  - هل كان وصفه حيا أم امتزج بالوصف النفسي وأيهما غلب على الآخر؟

  - تحدث عن لغة الترجمة من حيث الوضوح والدقة ونقل الصور البيانية إلى العربية.

  - قارن بين الشخصيتين الموصوفتين، وبين أوجه الشبه أو أوجه التنافر بينهما.

قواعد الوصف الخارجي ( تتمة):

  ومن أجل استنباط قواعد أخرى للوصف الجيد، نقارن المثال التالي لفيكتور هيغو ، بالنص الذي سبقه للكاتب نفسه:

جــان فالجان ( فيكتور هيغو ):

  " قبل المغيب بساعة تقريبا من أحد الأيام الأولى من شهر تشرين الأول أكتوبر سنة 1815، دخل رجل مترحل على قدميه مدينة (د.الصغيرة) فما كان من النفر القلائل من أبناء البلدة الذين كانوا واقفين في تلك اللحظة إلى نوافذ بيوتهم أو على عتبات أبوابها، إلا أن نظروا إلى هذا المسافر في ضرب من القلق. فقد كان من العسير أن تقع العين على عابر سبيل ذي مظهر أشد بؤسا. كان ربعة في الطول، بدينا، جلدا على الصعاب، وفي عنفوان العمر، ولعله أن يكون قد بلغ السادسة والأربعين أو السابعة والأربعين. كانت قلنسوة جلدية ممالة إلى جانب تخفي نصف إخفاء وجهه الذي برنزته (لوحته) الشمس والريح، وسال منه العرق. كان صدره الأشعث باديا من خلال القميص الأصفر الخشن المشدود حول الرقبة بمثبت فضي صغير. وكان يرتدي ربطة عنق مفتولة كالحبل، وبنطلونا كتانيا أزرق خشنا، مهترئا باليا، ابيضت إحدى ركبتيه، وتناثرت الثقوب في ركبته الأخرى، وصدرة رمادية عتيقة رثة رقعت عند أحد جوانبها بقطعة من القماش بواسطة خيط من قنب. وعلى ظهره كان كيس من أكياس العساكر محكم الربط، جديد بالكلية، وفي يده كان يحمل عصا هائلة ذات عقد. كانت قدماه غير المجوربتين تنتعلان حذاء رصف بالمسامير، وكان شعره مجزوزا وكانت لحيته طويلة. وأضاف العرق، والحرارة، والسير الطويل والغبار، قذارة تمتنع عن الوصف إلى هذا المظهر الخرب".

                                                                                                                        البؤساء (1) ص 108

بين الجمود  والحركة:

أول ما نلاحظه عند المقارنة بين النصين، أن الوصف في النص الأول مباشر وكأن الأحداث في الرواية تتوقف حتى يتم الكاتب وصفه لشخصية جافير. ونحن نعرف أن من تقاليد المسرح، توقف الأحداث حين دخول أحد الأشخاص لأول مرة إلى خشبة المسرح، إذ أن الجمهور يصفق تحية له، فيرد تحية الجمهور بانحنائه له ويتسمر كافة الممثلين على المسرح حتى ينتهي الجمهور من التصفيق فيتابعون التمثيل. وهنا أيضا يتجمد الحدث، وتتوقف الحركة، حتى يتم الكاتب وصفه، تم تستمر أحداث الرواية. ولكن توقف الأحداث من أجل الوصف يسبب للقارئ في بعض الأحيان مللا وضجرا، وخاصة إذا لم يكن الكاتب روائيا عظيما مثل فيكتور هيغو يستطيع أن يشد القارئ بروعة وصفه.

  أما في النص الثاني فالحركة لا تتوقف حيث يجعل الكاتب الوصف جزءا من الحدث، بل يجعله الحدث نفسه فهو إذن وصف غير مباشر فنحن لا نرى هذا الشخص الداخل إلى المدينة الصغيرة بعين الكاتب، بل بعين أهل البلدة جميعا، ونقحم فجأة بوعينا أو دون وعي منا في الحدث المحدد بالزمان والمكان، ونتفحص الرجل ونتشوق لمعرفة من يكون، ونقرأ الوصف بشوق لنكشف عن شخصيته، وندرك في النهاية أنه جان فالجان.

الفرق بين الوصف الروائي والسيرة:

  يهتم القارئ في الرواية بالأحداث، ولا يحب أن يقطع الوصف سلسلة تلاحقها. وعندما يعيق الوصف الحدث يحذفه القارئ ويهمله، ويقفز عليه متجاوزا إياه ليعرف بقية الأحداث. أما في السير والتراجم، فالقارئ يهتم بالشخصية  ويريد أن يعرف كل شيء عنها. ولا سيما إذا كانت شخصية تاريخية دينية أو سياسية أو علمية لها أثر في تاريخ الإنسانية.

  لذلك كان جمود الوصف في السيرة مقبولا، ولو أن كثيرا من كتاب السير في العصر الحديث انتهجوا أسلوب القصة في السير والتراجم ليتخلصوا من الأساليب الجامدة المتبعة في وصف الشخصية.

الوصف غير المباشر:

  ولنعد إلى وصف الطيب صالح لود الريس فهو أيضا غير مباشر وبعيد كل البعد عن الجمود، حيث انطلق الكاتب من حركة يديه في تلميس شاربيه فوصفهما لنا، ثم جعلنا نتبع يده اليسرى وهي تمسح لحيته فوصفها لنا باعتبارها إطارا للوجه، مبينا أبرز معالم اللوحة التي يحتويها الإطار وهما العينان والأنف.

  وليتضح الأمر أكثر نأخذ مثالا آخر لدوستويفسكي، ونقارنه بالمثال الذي أوردناه قبل قليل للكاتب نفسه:

المرأة الصغيرة ( دوستويفسكي ):

  " كان في تلك المرأة التي تسير على بعد عشرين خطوة منه شيء غريب يثير الاهتمام لأول وهلة، شيء راح يستأثر باهتمامه شيئا فشيئا، حتى أنه نسي كل شيء ماعدا النظر إليه والتحديق فيه... فقد أحب أن يكتشف السر الكامن وراء شذوذ هذه المرأة وغرابتها. فهي كانت تسير في جو حار خانق، مكشوفة الرأس، لا تحمل مظلة، ولا تضع قفازا، كما أنها كانت تطوح بيديها بشكل مضحك حقا. وكانت ترتدي ثوبا حريريا رخيصا، طريف الشكل، يبدو كأنه يرتكز على جسم صاحبته، ولولا رباط صغير كان يثبت الثوب على جسمها، لكاد أن يتخلف عنه. كان ذلك الثوب ممزقا من خصرها حتى الأسفل، وقد تدلت منه قطعة مستقلة عنه، كانت تتأرجح كلما تحركت صاحبته.

  أما عنقها العاري، فكانت تلفه بشال صغير يكاد لا يستره. ولم يكن هذا وحده مما يستلفت الانتباه ولكن المرأة كانت كذلك ـ لأن خطواتها لم تكن متزنة ـ تتعثر في طريقها، وتميل ذات اليمين وذات اليسار، مما أثار فضول راسكولينكوف، فلحق بها حتى أدركها عند المقعد المقصود حيث ارتمت على جانبه، متكئة على المسند، مغمضة عينيها المنهوكتين من شدة التعب فقد كانت سكرى حتى الثمالة".

  " لقد كان ينظر إليها محدقا فإذا هي فتاة صغيرة السن، بدليل وجهها الصغير، ولم تكن تتجاوز، على ما يبدو، السادسة عشرة من عمرها، كانت جميلة الوجه موردة الوجنتين، رقيقة الملامح، وذات شعر أشقر ذهبي".

                                                                                                                الجريمة والعقاب ص 70 ـ 71

تجنب الوصف المباشر:

  وكما رأينا في المقارنة بين نصي هيغو، نجد الأمر نفسه بالنسبة إلى دوستويفسكي فالنص الأول "رومانوفنا الجميلة" وصف دقيق ولكنه وصف مباشر جامد، خال من الحركة، ويتوقف الحدث خلاله، بينما النص الثاني غير مباشر لأنه مرتبط بالحدث، لا يتوقف القارئ ليتأمل الوصف بل ينفعل معه لأنه جزء من الحدث، وهنا تصبح الحركة القاعدة الرابعة الهامة في الوصف والتي تبعده عن الجمود والمباشرة:

  4 ـ تجنب الوصف المباشر المتسم بالجمود وصف الشخصيات أثناء الحركة ليصبح وصفها جزءا من الحدث.

ونتابع حديثنا عن قواعد الوصف بهذا المثال:

  رادوبيس (نجيب محفوظ):

  "وأثار الحماس رادوبيس نفسها، فدبت بها حياة فجائية، وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان، وكان ما يرى منها نصفها الأعلى، فاستطاع المجدودون أن يشاهدوا شعرها الأسود الحالك السواد، ينتظم على رأسها الصغير في أسلاك من الحرير اللامع، ويهبط على كتفيها في هالة من الليل كأنه تاج  إلهي، ينبلج في وسطه وجه مشرق مستدير، عانقت فيه أشعة الشمس خدين كالورد اليانع، وفما رقيقا مفترا كأنه زهرة من الياسمين في خاتم من القرنقل".

                                                                                                        الأعمال الكاملة (3) رادوبيس ص 371

الوصف أثناء الانفعال:

  ونلاحظ هنا أن الكاتب يصف ملامح رادوبيس، بطلة الرواية في ذروة حماسها وتصفيقها لرؤية فرعون في موكبه، فيعكس لنا انفعالها، وإعجابها، وفرحتها: "فدبت فيها حياة فجائية وأضاء وجهها بنور بهيج". ووصف الشخصية في هذه اللحظة يضفي عليها سحرا مميزا، ويكسوها بجاذبية خاصة، ويبعدها عن التقريرية والمباشرة، فيأتي الوصف طبيعيا، تلقائيا، غير متكلف، ولا متصنع، لأن الإنسان في حالة الانفعال يجري على سجيته، فيكون الوصف مشوقا إذ ينتقل هذا الانفعال إلى القارئ أثناء قراءته الوصف.

  وإحدى الطرق المثلى لوصف الشخصية أثناء الانفعال هو وصفها أثناء ممارسة عمل أو هواية أو القيام بنشاط، فخير وصف للطبيب هو أثناء فحصه مريضا أو قيامه بعملية جراحية، وخير وصف للمحامي أو القاضي، هو أثناء إنجازهما في قاعة المحكمة، وكذلك المدرس في قاعة الدرس وهكذا. ويمكن وصف الشخصية كما ذكرنا أثناء تأدية هواية من الهوايات، رياضية كانت أم ثقافية وكذلك وصف الشخصية في حالة الانفعال: الفرح أو الغضب أو الحزن... الخ.  ونتابع حديثتنا عن قواعد الوصف بهذا المثال:

أحمد عاكف "نجيب محفوظ":

  "انتصفت الساعة الثانية من مساء يوم من سبتمبر سنة 1941 موعد انصراف الدواوين، حين تنطلق جماعات الموظفين من أبواب الوزارات كالفيضان العارم، وقد أنهكها الجوع والملل، ثم تنتشر في الأرض تطاردها أشعة الشمس الموقدة.

  انطلق أحمد عاكف الموظف بالأشغال مع المنطلقين. مضى يذرع الطوار في انتظار ترام يوصله إلى ميدان المملكة فريدة. مضى يذرع الطوار لأنه لم يكن يحتمل الجمود طويلا. وكأنما سويت أعصابه من قلق، وكان يدخن سيجارة بعجلة دلت على انشغاله. فبدا في اضطراب حركته وقلق مظهره وشذوذ هندامه كهلا متعبا ضيق الصدر تلوح في عينيه نظرة شاردة تغيب بصاحبها عما حوله. كان يدنو من ختام الأربعين يسترعي الانتباه بنحافة قامته وطولها واضطراب ملابسه اضطرابا يستدر الرثاء. والواقع أن تكسر بنطلونه وانحسار ذراعي الجاكتة عن رسغيه، وتلبد العرق والغبار على حرف طربوشه وتقبض القميص ورثاثة رباط الرقبة، وصلعته البيضاوية، وسعي المشيب إلى قذاله وفوديه، كل أولئك أوهم بتكبير سنه. وفيما عدا ذلك فوجهه نحيل مستطيل، شاحب اللون، ذو رأس صغير مستطيل ينحدر خفيفا إلى جبهة تميل إلى الضيق، يحدها حاجبان مستقيمان خفيفان متباعدان، يظللان عينين بالغتين في امتدادهما وضيقهما، فهما تكادان أن تملآ صفحة الوجه الضيقة فإذا ضيقهما ليتقي شعاع الشمس بدتا مغمضتين واختفى لونهما العسلي العميق، وقد تساقطت أهدابهما واحمرت أشفارهما احمرارا خفيفا، يتوسطهما أنف دقيق وفم رقيق الشفتين وذقن صغير مدبب. ومن عجب أنه عد يوما ممن يعنون بحسن هندامهم وأناقتهم. وبدا إذ ذاك في صورة مقبولة، ولكن اليأس والحرص وما اعتراه بعد ذلك من داء التشبه بالمفكرين نزع به عن أية عناية بنفسه أو بلباسه.

  استقل الترام رقم "15" وقد افترت شفتاه عن ابتسامة ساخرة كشفت عن أسنان مصفرة من فعل التدخين".

                                                                                                    الأعمال الكاملة(3)خان الخليلي ص 5 و 6

مزج الوصف الخارجي بالداخلي:

  هل هناك جديد في هذا الوصف؟ بدأه الكاتب بتحديد زمان ومكان الحدث ثم بوصف أحمد عاكف وهو ينتظر الترام، فأظهر لنا قلقه وانفعاله، وعصبيته وحركته الدائمة، وطريقة تدخينه التي دلت على انفعاله. ووصف لنا شذوذ هندامه، ونظرته الشاردة التي تذهله عما حوله. وبدأ بوصفه وصفا عاما في البداية (العمر والنحافة والطول) ثم تمهل في وصف ملابسه، وإهماله المفرط لهندامه، ليقول إن ذلك ساهم في الإيهام بتكبير سنه، إلى جانب صلعه وشيبه. وانتقل من العام إلى الخاص أيضا في وصف الوجه، فأظهر استطالته وشحوبه، وانتقل إلى الرأس الصغير ثم إلى الجبهة الضيقة فالحاجبين المستقيمين الخفيفين المتباعدين، وأشفارهما المحمرة، فالأنف الدقيق والفم الرقيق والذقن الصغير المدبب. وربط مظهره هذا بحالته النفسية التي أوصلته إلى ما هو عليه بعد أن كان يضرب به المثل في الأناقة.

  ومن خلال ابتسامة ساخرة، يصف لنا الكاتب أسنانه المصفرة من فعل التدخين.

  لا شك أن الكاتب استعمل كافة القواعد التي تحدثنا عنها فبدأ وصفه منتقلا من العام إلى الخاص، وركز في وصفه على ما يميز شخصية أحمد عاكف من علامات فارقة: (الطول، النحافة، إهمال الهندام، الصلع، الشيب.. الخ ). واستعمل في وصفه الأشكال: (صلعته البيضاوية، وجهه نحيل مستطيل، ذو رأس صغير مستطيل، يحد جبهته حاجبان مستقيمان متباعدان، فم رفيق، ذقن مدبب)، والألوان: (واختفى لونهما العسلي العميق. واحمرت أشفارهما احمرارا خفيفا، كشفت عن أسنان مصفرة ). كما استعمل الأفعال الحركية الموحية بتحريك الجماد: ( تكسر بنطلونه، انحسار ذراعي الجاكتة، تقبض القميص، سعي المشيب). ومزج بين الوصف وسرد الحدث، إذ وصفه لنا أثناء انتظاره الترام: (مضى يذرع الطوار أي الرصيف لأنه لم يكن يحتمل الجمود طويلا).

  كما وصفه أثناء الانفعال، حيث كان في حالة عصبية: (وكأنما سويت أعصابه من قلق، وكان يدخن سيجارة بعجلة دلت على انشغاله، فبدا في اضطراب حركته وقلق مظهره كهلا متعبا ضيق الصدر).

  ولكن هناك شيئا ليس جديدا تماما ولكنه بارز في هذا النص، وهو مزج الوصف الخارجي بالوصف الداخلي، فقد كشف لنا الكاتب بعض جوانب نفسية أحمد عاكف من خلال مظهره: (النظرة الشاردة التي تغيب بصاحبها عما حوله والابتسامة الساخرة وشذوذ الهندام، حيث لو لم يكن هناك سبب نفسي لهذا الشذوذ لظننا أننا أمام أحد المتسولين لا الموظفين: ( تكسر البنطلون، تلبد العراق والغبار على حافة الطربوش، رثاثة رباط الرقبة.. الخ). وقبل نهاية الوصف يوضح لنا الكاتب الحالة النفسية لأحمد عاكف حين يقول: "ولكن اليأس والحرص وما اعتراه بعد ذلك من داء التشبه بالمفكرين نزع به عن أية عناية بنفسه أو بلباسه". اليأس من ماذا؟  الحرص على ماذا؟  هذا ما سيكشفه الكاتب فيما بعد من خلال الرواية. ولكنه مزج منذ البداية الوصف الخارجي بالوصف الداخلي، ليكون وصفه أكثر حيوية ومصداقية، وبعيدا عن المباشرة والتقريرية.

و هذا مثال آخر عن امتزاج الوصف الخارجي بالداخلي من ثلاثية محمد ديب:

  "كان مظهر حميد سراج ينم عن سنه الثلاثين، ورغم البساطة التي تضفي على وجهه معاني السذاجة والطيبة، لم يكن بالمرء من حاجة إلى ملاحظة مرهفة حتى يدرك أنه رجل رأى كثيرأ، وعاش كثيرا، كما يقال. كان في هيئته هدوء وحزم، على غير استخفاف مع ذلك. كان يتكلم بصوت خافت جميل الوقع في الأذن، بطيء بعض البطء، وهو قصير القامة، ولكنه ممتلئ الجسم".

  "إن حياته تبدو لمن يقاربونه ملأى بالأسرار. لقد أخذ إلى تركيا وهو ما يزال صبيا صغيرا في الخامسة من عمره، وذلك أثناء الهجرة الكبرى التي جعلت عددا كبيرا من الناس في بلادنا يهرب إلى تركيا إبان حرب 1914، حين جعل التجنيد إجباريا. وفي تركيا اختفى حميد سراج وهو في الخامسة عشرة من عمره، لا يعرف إلا الله أين اندس. وغاب بضع سنين، دون أن يرسل شيئا من أنبائه لا لأبويه ولا لأخته التي بقيت في الجزائر. وعادت أسرته من تركيا دون أن تعرف شيئا عن المصير الذي آل إليه.

  وفي ذات يوم ظهر. وأخذت الشرطة تراقب روحاته وغدواته.

  إن أغرب ما فيه هو تعبير عينيه الخضراوين، الصافيتين أشد الصفاء، اللتين يبدو أنهما تنفذان في الناس والأشياء نفاذا عميقا. وكان صوته، حين يتكلم، يثبت الكلمات التي يلوح أن نظرته الغريبة تقرؤها في الأفق البعيد. إن غضونا تخدد وجهه منذ الآن، وإن شعر رأسه يتساقط فيتسع من ذلك جبينه، ويبدو عاليا علوا كبيرا.

  كان يندر أن لا يرى المرء في جيوب سترته العريضة القديمة الرمادية كتبا كانت أغلفتها وصفحاتها تنفصل ولكنها لا تضيع، لأن حميدا لا يدعها تضيع أبدا، وهو الذي أعار عمر ذلك الكتاب الذي عنوانه "الجبال والرجال" فراح الصبي يفك رموزه في صبر وأناة، صفحة بعد صفحة، دون أن تخور عزيمته، واحتاج إلى أربعة أشهر لإتمام قراءته".

                                                                                                     الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 07

  إن وصف حميد سراج الخارجي يتلخص في عمره، قصر قامته وامتلاء جسمه وصوته الجميل، وكذلك في عينيه الخضراوين الصافيتين، والغضون التي تخدد وجهه، ورأسه الذي يبدو، قد اتسعت رقعة الصلع فيه، إلى جانب سترته العريضة الرمادية القديمة.

  إنه وسيم ما في ذلك شك، بالرغم من قصر قامته، ولكن هناك صفات ذات أهمية كبرى نراها من خلال هذا المظهر، إذ نقرأ في وجهه معاني "السذاجة والطيبة" كما أننا نستنتج من ملاحظتنا له أنه رجل مجرب "رأى كثيرا وعاش كثيرا "ونلمح في هيئته" الهدوء و الحزم".

  وقد قدم الكاتب لنا نبذة عن حياته: أسرته وهجرتها إلى تركيا ثم  عودتها، ليخلص إلى أن حياته مليئة بالأسرار، وهو غير متزوج وليس له أحد إلا أخته في الجزائر.

  أما عيناه فمعبرتان، وتنفذان في الناس والأشياء نفاذا عميقا، وحين يتكلم فهو فصيح وكأن ما يقوله يقرؤه في الأفق البعيد.

  إنها صفات الشخصية القيادية: الطيبة، والهدوء والحزم، والتجربة، وقراءة أفكار الناس ومعرفة ما وراء الأشياء، والفصاحة وهو ناشر لنور المعرفة إذ أنه لا يقرأ الكتب فحسب، ولكنه يعيرها للآخرين حتى أن أغلفتها وصفحاتها تنفصل ولكنها لا تضيع. وهو متفرغ للكفاح من أجل بلاده فهو غير متزوج وليس له أولاد .

  ولو راجعنا بعض النصوص السابقة التي أوردناها في هذا الفصل، لوجدنا أن المظهر الخارجي فيها يحمل دلالات نفسية، فتولستوي يخبرنا أن والده كان "مهيب الطلعة"  وهذا دليل على قوة شخصيته، و"عيناه ضاحكتان دائما"، وهذا دليل على مرحه ومزاجه الرائق. ويصف الطيب صالح عيني ود الريس "بالجميلتين الذكيتين"، والذكاء صفة عقلية، تدخل في نطاق الوصف النفسي الداخلي، ودوستويفسكي يقول إن في "أفدوتيا رومانوفنا" من القوة والثقة ما يبدو في كل حركة من حركاتها دون أن يؤثر ذلك في رقتها ووداعتها". ويصف لنا عينيها بأنهما "مزهوتين لامعتين" ، وفي الوقت نفسه "عامرتين بالرقة والخير" وتدل ملامح وجهها على "التفكير والرزانة أكثر من البشاشة"، وكانت "ضحكتها وبشاشتها وفتوتها، ومرحها، تلبق لها". وهذا في الحقيقة مزج رائع للوصف الخارجي بالداخلي، وإظهار الصفات النفسية من خلال وصف العينين والوجه.

  أما فيكتور هيغو فقد كشف لنا بعضا من الخصائص النفسية لجافير من خلال وصفه الخارجي: "وكان إذا ما ضحك، وهو شيء نادر وفظيع"، وهل هناك أبلغ من هذا الوصف في التعبير عن أن جافير لا يضحك، ومن لا يضحك هو مخلوق قاس شرس ونكاد نقول إنه ليس إنسانا، ويتابع هيغو وصفه فيقول: "إذا ما غلبت عليه الصرامة كلبا من كلاب درواس الشرسة الطباع"، والتي تمزق فريستها في الصيد تمزيقا. وكان "إذا ما ضحك نمرا" وهو ما يذكرنا بقول المتبني:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة    فلا تظنّنّ أنّ الليـث يبتسـمُ

                                                                                                        شرح ديوان المتنبي (4) ص85

  فضحك النمر هو تكشير عن الأنياب لتمزيق فريسته، أما بقية الوصف فهو: "عبسة بين العينين مركزية سرمدية كأنها نجم الغضب، ونظرة قاتمة، وفم مطبق مروع، وسيما من السلطة الضارية". إنه وصف لمخلوق لا إنساني، كل ما فيه مخيف ومفزع.

  ونستنبط القاعدة الخامسة من قواعد الوصف وهي:

  5 - المزج في الوصف بين المظهرين الخارجي والداخلي للشخصية وإبراز بعض الصفات النفسية الهامة من خلال الوصف الخارجي.

  وهناك نقطة هامة يجب أن نشير إليها في الوصف هي العاطفة، فالوصف موقف. وليس هناك في الرواية على الأغلب وصف حيادي. وهذا الموقف، يؤثر علينا نحن القراء دون أن نشعر. فالكاتب حين يمسك بالقلم يرسم شخصيته، يمسك في الوقت نفسه، بأوتار قلوبنا، فيحركها يمنة ويسرة، ويجعلنا نحب هذه الشخصية أو نكرهها، نعجب بها أو ننفر منها، نرثي لها ونشفق عليها، أو نخاف منها ونسخط عليها، وبكلمة واحدة نتعاطف أو لا نتعاطف معها.

  وإذا استعرضنا أمثلة هذا الفصل، لوجدنا أن الكتاب تركوا بصماتهم العاطفية في كل وصف ولنبدأ بوصف الإمام علي حيث نلمح عاطفة الإعجاب واضحة في الوصف، ولا سيما الإعجاب بوسامته وقوته. ورغم بعض العيوب التي أوردها تولستوي في وصف أبيه: مشيته الغريبة وحركته الشاذة. إلا أن طول قامته، ومهابة طلعته، وعينيه الضاحكتين، وشفتيه اللتين تنطبقان انطباقا غير مستقيم لكنه محبب، تشي كلها بحب الكاتب له، وإعجابه به. وليس هناك من يقرأ هذا النص، فيكره هذه الصفات أو ينفر منها، فعاطفة تولستوي إذن هي الحب والإعجاب.

  أما وصف الطيب صالح لود الريس، فيسوقنا الكاتب إلى الإعجاب بوسامته وذكائه رغم كبر سنه وبياض لحيته من خلال قوله: "العينين الجميلتين الذكيتين، والأنف المرهف الوسيم"، وقوله أيضا: "كان في مجموعه وجها جميلا". وإذا انتقلنا إلى وصف دوستويفسكي لشخصية" أفدوتيا رومانوفنا. نلاحظ إطراء الكاتب جمالها وانسجام قدها منذ العبارة الأولى، إلى جانب قوة شخصيتها، وإشراق وجهها وبشاشتها وعينيها العامرتين بالرقة والخير. ومن الطبيعي أن نتعاطف مع هذه الشخصية التي تجمع بين الجمال وقوة الشخصية والرقة والخير، وأن نحبها ونعجب بها.

  أما وصف "جافير" لهيغو، فيجعلنا ننفر من هذه الشخصية بل ونخاف منها. لأنها تتسم بالصرامة والشراسة والوحشية. وليس الأنف الأفطس ذو المنخرين العميقين، اللذين يشبههما الكاتب بالمغارتين، والشاربان اللذان يشبههما الكاتب بالغابتين، والرأس الصغير والفكان الضخمان هي وحدها سبب النفور. ولكن صرامته التي صيرته كلبا من كلاب درواس، وندرة ضحكه، وعبوسه السرمدي، ونظرته القاتمة وفمه المطبق المروع، هي التي تجعل منه وحشا كاسرا، نخافه ونتقي شره.

  أما العواطف التي تثيرها فينا النصوص الأخرى باختصار، فهي شعور بالشفقة على "جان فالجان" البائس، وشعور بالشفقة والخوف على المرأة الصغيرة التي وصفها دوستويفسكي والتي سكرت حتى الثمالة فنحن لا نعجب بجمالها، ولكننا نرثي لحالها، وهي الطفلة ذات الستة عشر عاما خوفا من أن يجرفها تيار الانحراف إلى الأبد.

  أما "رادوبيس" فنحس عند قراءة وصف محفوظ لها بالإعجاب بجمالها الأنثوي ورقتها، ونتعاطف مع أحمد عاكف، فنشفق عليه ونرثي لما أصابه من تغير جعله يهمل مظهره وهندامه، ونتعاطف أخيرا مع حميد سراج تعاطفا كاملا حيث نشعر بحب هذه الشخصية ونتمنى لها النصر في كفاحها ونخاف عليها من أي سوء.

  إن تعاطف الكاتب مع هذه الشخصية وعدم تعاطفه مع تلك، يزيد أو ينقص، بقراءتنا للأحداث ومعرفتنا لأعمال هذه الشخصية، ومظاهرها النفسية الأخرى، ولكن الانطباع الأول، الذي يوحى به الكاتب إلينا في رسم المظهر الخارجي، ذو أهمية بالغة، إذ أنه المفتاح الأول للشخصية، وبذا يمكننا أن نضيف قاعدة أخرى لقواعد الوصف هي:

  6 ـ لا بد أن يتضمن الوصف العاطفة التي يريد الكاتب أن يحس بها القارئ سواء أكانت عاطفة حب أم كره، إعجاب أم نفور.

وصف الشخصيات الثانوية:

  لا بد أن نذكر أيضا بما قلناه سابقا، في بداية حديثنا عن وصف الأشخاص: "ليس هناك وصف من أجل الوصف والكاتب يصف من شخصياته بمقدار ما يكفي لفهم الحدث، دون زيادة أو نقصان". ولنأخذ مثالا عن ذلك:

المتسول (محمد ديب):

  "ثم رأيا رجلا رث الثياب مغبرا، هرما، مستندا بذراعه إلى طفل يتهافت على الأرض عند مدخل المقهى، ويضع عصاه بين ركبتيه المرفوعتين. إنه يميل برأسه على صدره كأنه مكسور العنق، ويلبث على هذا الوضع لا يتحرك، حتى لكأنه يغفو. غير أن يده الضخمة ذات الأظفار الطويلة، لا تدع قبضة الصبي النحيلة، بل تتشبت بها تشبث اليائس".

                                                                                                       الدار الكبيرة: الحريق: النول ص 477

  إن وظيفة هذا المتسول في الرواية، أن يثير مرآه فضول أحد زبائن المقهى، فتجري محاورة بينهما، نعرف من خلالها أن الرجل والطفل جاءا من القرية بسبب المجاعة. مجاعة كبرى يقول عنها المتسول أثناء الحوار: "حتى عصافير ربنا تموت جوعا هناك". وهكذا فإن وظيفة هذا الوصف والحوار الذي يليه، معرفة فظاعة المجاعة التي أصابت الريف، فحولت كثيرا من الفلاحين إلى متسولين، والشيخ المتسول دليل حي على ذلك. ونحن لم نر هذا المتسول إلا مرة واحدة في الرواية، ولن نراه بعدها، فهو ليس شخصية محورية، مرتبطة بأحداث الرواية كلها. إنه مرتبط بحدث واحد، لذلك لم يكن من الضروري رسم وصف تفصيلي له، فقد ركز الكاتب على رثاثة ثياب هذا الرجل، وهرمه، واستناده إلى ذراع الطفل، أي ما يكفي لتصويره حرفة التسول، ولم نر ملامح الطفل ولا الشيخ، فلا أهمية لهما في الحدث الذي نحن بصدده. قال لنا الكاتب إن الفلاحين تحولوا بسبب المجاعة إلى متسولين، وأعطانا عينة ومثالا عن ذلك.

  وينطبق هذا على الشخصيات الثانوية في الروايات الطويلة، والتي يتراوح عددها بين الخمسين والمائة وقد يفوق ذلك حيث نجد شخصيات الدكتور جيفاجو فوق الستين وشخصيات الحرب والسلم تعد بالمئات لذلك يكتفي الكاتب بوصف سريع لبعض الشخصيات تبرز سماتها العامة المتميزة، وهذا أحد الأمثلة الموضحة لهذا النوع من الوصف.

الوصف السريع (ماكسيم غوركي):

  "وفي المساء تكون الزيارات غالبا. ومن بين الزائرين الذين يترددون: اليكسي فاسيليف، وهو رجل وسيم وقور صموت، شاحب الوجه أسود اللحية، ورومان بتيروف، وهو ذو وجه نحاسي ورأس شديد الاستدارة. تصطك شفتاه دائما في حركة مشفقة، وجان دانيلوف، وهو صغير هزيل، مدبب اللحية، وذو صوت نحيف صخاب مثير، حاد كأنه المخزر، وإيغور الذي يسخر من نفسه، ومن رفاقه، ومن شقائه الذي يتعاظم بلا انقطاع، وآخرون غيرهم كانوا يقبلون من المدن النائية ".

                                                                                                                              الأم ص 273

 

وصف الشخصيات الرئيسية بالتفصيل:

  أما الشخصيات المحورية كشخصية أحمد عاكف في خان الخليلي فوصفها بالتفصيل ضروري لفهم أحداث الرواية.

خلاصة قواعد الوصف الخارجي:

  ولا بأس أن نعيد التذكير بالقواعد التي ابتدعها الروائيون لوصف شخصياتهم، مؤكدين بأن هذه القواعد ليست قوالب جامدة، يتبعها كافة الكتاب أويتقيدون بها حرفيا ولكنها تقنيات وفنيات يسترشد بها المتعلم حتى يشتد عوده، ويقوى أسلوبه، فيبتدع طرقا وقواعد تميزه عن غيره في الكتابة:

  1 ـ ركز في وصفك على ما يميز الشخصية عن غيرها وما يشد الانتباه إليها سواء أكان مزية أو عيبا أو علامة فارقة.

  2 ـ انطلق في وصفك من العام إلى الخاص، أو من الخاص إلى العام، حتى تكون منهجيا في وصفك.

  3 ـ استعمل عناصر الوصف المحسوسة التي تعلمتها في وصفك، واختر منها ما يلائم الشخصية التي تصفها: (الأشكال والألوان، الأصوات، الروائح، الطعوم، الملموسات).

  4 ـ صف شخصياتك أثناء حركتها وقيامها بالحدث أو أثناء الانفعال ولا تتوقف عن سرد الأحداث لوصفها بل اجعل وصفها جزءا من الأحداث.

  5 ـ امزج بين الوجهين الخارجي والداخلي في وصف شخصيتك، وحاول إبراز بعض الصفات النفسية الهامة من خلال الوصف الخارجي.

  6 ـ ضَمِّنْ وصفك العاطفة التي تريد نقلها إلى القارئ عند الوصف.

  7 ـ صف شخصياتك بالمقدار الضروري لفهم الأحداث دون زيادة أو نقصان.

تماريـــن:

  1 ـ لا يصبح الرسام فنانا إلا بعد أن يرسم مئات اللوحات، فحاول أن تتدرب على رسم بعض الوجوه المعبرة مستعملا القواعد التي تعلمتها، مبرزا مزاياها وعيوبها وتجنب الجمود والمباشرة في وصفك. وحاول أن تجعل القارئ يتعاطف مع الشخصية أو ينفر منها من خلال وصفك. اختر مواضيعك بنفسك أو استعن إن أردت بالاقتراحات الآتية:

  ـ طفل بريء مبتسم، أو وجه طفل يتيم جائع حزين.

  ـ موظف مسؤول متكبر يصعر خده للناس، أو وجه إنسان سموح متواضع .

  ـ منافق بوجهين يتذلل لرؤسائه ويتنمر على مرؤوسيه.

  ـ وصف إنسان تقي يغمره النور أو وجه إنسان شرير لا يكترث بمشاعر الناس.

  ـ فتاة حسناء عيبها أن جبينها متسع لذلك تغطيه بخصلات من شعرها.

  ـ فتاة جميلة ولكن كتفها متصل برأسها لذلك تضع عصبة محلاة باللؤلؤ على رقبتها  لتبرزها.

  - رياضي أو رياضية في الملعب.

  2 ـ استخرج من الرواية التي تطبق عليها بعض أوصاف الأشخاص، ووضح القواعد التي استعملها الكاتب في وصفه ومقدار توفيقه فيها.

  3 ـ صف بعض الأشخاص الحقيقيين الذين تعرفهم من أهلك وأقربائك وأصدقائك وسكان حيك. وتجنب استعمال أسلوب السخرية أو إبراز العيوب في وصف من تعرفهم.

   

  لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الثاني: جزئيات الوصف الخارجي(الوجه،العينان،الفم،الأنف،الشعر..الخ)

 لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل السابع: اللغة وتمارين على الباب الأول

للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا: فن الكتابة: تقنيات الوصف