الفصل الرابع عشر
من رواية "العرس المشهود"
للكاتب عبد الله خمّار
المحاكمة
وقف كريم فجأة وبدأ يستعيد نشاطه وطلب من المذيع أن يعيد وصل الإرسال، اتصل المذيع بالهاتف بغرفة الإرسال فأضاءت الشاشات من جديد. وُجِّهَتْ عدسات الكاميرا الثلاث إلى كريم الذي خاطب الجمهور قائلا: "أعتذر عما حدث فحارسي الشخصي ظن أنني مذنب وهو يريد الدفاع عني، ليس هناك من هو فوق القانون، فإن كنت مذنبا فأنا مستعد لدفع الثمن، ولكنني بريء". خاطب نور مستفهما: "لماذا غيرت اسمك من الشطي إلى حمزاوي؟"
- : "خالي غيره بعد المحاكمة والفضيحة التي لحقت بالعائلة".
سألها مجددا: "هل تغيب وكيلك السيد علي الوافي عامدا حتى لا يتم العقد؟".
- : "طبعا، وهل كنت تظن أنني أتزوج ممّن ألحق العار بأبي وبأسرتي؟"
هز كريم رأسه قائلا: "فهمت الآن لماذا طلبت مني أن يكون العرس جزائريا وأن يكون المدعوون كلهم جزائريين".
- : " أردت أن يكون كل الجزائريين شهودا على براءة أبي من سرقة الخزنة. وأنا التي دعوت سلاف وماما حكيمة ولطفي بولعيون لأكشفك أمامهم".
تجاهل كريم عبارتها الأخيرة وقال: "أبوك بريء من سرقة الخزنة. وأنا سعيد بأن تكوني ابنة عمار الشطي الرجل الذي أحسن إلي، ولولاه لظللت محاسبا بسيطا في مؤسسة بولعيون، وما دمت أردت تحويل عرسي إلى محاكمة فأنا مستعد لمواجهة التهمة، وأقبل بك مدعية وقاضية".
خلع سترته وربطة عنقه ووقف أمامها رافعا يده بحيث يكون كفه الأيمن المفتوح بموازاة كتفه قائلا: "أنا لم أسرق الخزنة وأقسم بالله على ذلك وأنا لا أكذب. لا أدعي أنني خال من العيوب لكنني لا أكذب ولا أسرق".
ردت نور باستنكار: "عجباً !كيف تدعي أنك لا تكذب وأنت كذبت حين أنكرت أنك عبد الكريم الجايح؟"
أجاب كريم بحماس: "لم أكذب لأن الجايح اسم مزيف وليس اسمي الحقيقي وأردت أن أمحوه من ذاكرتي ومن وجودي. هو اسم اختاره أبي رحمه الله لأنه اشتغل بالفن رغم اعتراض العائلة فغير اسمه وقطع صلته بها، وقطع بالتالي صلتي بعائلتي التي لا أعرف عنها ولا تعرف عني شيئا".
ردت نور: "وزعمت أنك لا تسرق ومربيتك في دار الأيتام أكدت أنك كنت تسرق منذ طفولتك".
أجاب كريم: "هل تذكرين حكاية الملاك والشيطانة التي ذكرتها للسائق محفوظ؟"
وأضاف قبل أن تجيبه: "ماما رحيمة وماما حكيمة هما المربيتان اللتان قصدتهما، وقد علمتاني في دار الأيتام. أنا لم أسرق. كانت تهمة باطلة، ومع ذلك، لم أنس فضل ماما حكيمة علي رغم أنها أخطأت في اتهامي بالسرقة. ومنذ خمس سنوات، حين أصبحت موسرا، بدأت أرسل إليها وإلى أختها حوالة مالية شهرية بالعملة الصعبة باسم إحدى الجمعيات كي لا تعرفا أنني المرسل، ولولا أنها ما زالت تصر على أن تفضحني وتذكرني بسوء ما كشفت عن تلك المعونة، وهي موجودة في القاعة ويمكنكم سؤالها عن هذه المعونة".
اقتربت ماما حكيمة من الحلقة المحيطة بكريم فأفسح لها الجمهور الطريق، وقفت مطأطئة الرأس أمامه قائلة: "أعترف أن أختي رحيمة كانت تعرفك أكثر مني، وهي التي قالت لي حين بدأت ترسل معونتك الشهرية: "لا يمكن أن يفعل هذا إلا عبد الكريم"، وكنت أسخر منها وأعارضها فيما قالته، أنا أعتذر عن كل ما سببته لك في الماضي والحاضر، وأشكرك على كرمك"، قالت هذا وانسحبت.
*
لكن نور ظلت مصرة على اتهامها له وسألته: "هل تنكر أنك سرقت الخزنة وألصقت التهمة بأبي؟"
رد كريم: "لا يمكنني أن أتهم أباك لأن الخزنة كانت مليئة عند وفاته، أبوك كان أمينا وشريفا وحاشا لله أن أتهمه. هو الذي دربني ووفر لي العمل في أستراليا مع أحد معارفه السوريين، وبفضل الله وبفضله وصلت إلى ما وصلت إليه الآن. أنا أعجب من اتهامك لي، ولا أدري على أي أساس بنيته؟ وما أدلتك؟"
أجابت نور: "الدليل الأول هو شهادة بوعلام الوناس الذي أكد أنه شاركك في سرقة الخزنة".
رد كريم: "بوعلام الوناس مخطئ، فنحن لم نسرق الخزنة. ترك أبوك الخزنة مفتوحة حين نقلته مع أخيك إلى المستشفى وأوصاني بإغلاقها. وحينما عدت بعد وفاة أبيك رحمه الله، رأيت السيد الوناس يأخذ بعض المال منها ويهم بالخروج. وحين رآني ارتعد من الخوف وأخبرني أن الحاجة دفعته لأن يأخذ خمسة ملايين سنتيم لأن زوجته في حالة ولادة. وبّخته في البداية ثم ناديته وأعطيته ما أراد. كان لي في ذمة المؤسسة عشرة ملايين سنتيم، وكنت قد قررت أن أعطيها لماما رحيمة لأني مسافر إلى أستراليا. وحين لمست احتياج الوناس للمبلغ قسمته بينهما وكتبت إيصالا بالمبلغ ووضعته في الخزنة".
تابعت نور: "والدليل الثاني هو شهادة خالتي زهية التي رأتك تخرج الشكارتين الكبيرتين السوداوين من المؤسسة".
رد كريم: "كان يوم الجمعة أول سبتمبر هو آخر يوم لي في المؤسسة لأني كنت سأسافر يوم السبت إلى لندن ومنها إلى أستراليا. جمعت أغراضي في الكيسين البلاستيكيين اللتين رأتهما خالتي زهية، وظنت أن أموال الخزنة فيهما ووضعتهما في سيارتي".
تابعت نور: "والدليل الثالث هو شهادة ماما حكيمة بأنك أحضرت حقيبتين كبيرتين وتركتهما عندها".
رد كريم: "نعم، وقد وضعت فيهما ملابسي وأودعتهما قبل ذلك بشهر أي في أوائل أوت عند ماما رحيمة لأن صاحب الدار التي أسكنها قرر طلاءها من جديد".
تابعت نور: "والدليل الرابع هو اتهامك لأبي بأنه مقامر".
رد كريم مستنكرا: "أنا لم أتهم أباك أبدا بأنه مقامر وأنه بدّد أموال الخزنة بالقمار".
تابعت نور: "لكن السيد بو لعيون شهد في المحكمة بأنك أخبرته أن أبي شكا لك خسارة أموال الخزنة في القمار فنصحته بمصارحة السيد بو لعيون".
رد كريم: "لنسأل السيد بو لعيون. (يوجه الكلام له): أحقا أنك ذكرت في المحكمة أني قلت لك ذلك؟"
أجاب لطفي بو لعيون: "لا، ذكرت في المحكمة أن عمال المصنع أخبروني بأنهم سمعوا منك ذلك".
التفت كريم إلى نور قائلا: "هل ترين؟ من هم عمال المصنع الذين سمعوا مني هذا الكلام؟ ومتى سمعوه؟ لا أدري".
سألته نور: "ما دمت تعرف أن أبي بريء، لماذا لم تشهد بذلك؟"
أجاب كريم: "لم أسمع بما حدث إلا من الوناس عند عودتي".
سألت نور في حيرة: "من سرق الخزنة إذاً؟"
رد كريم: "هذا سؤال وجيه. كانت الخزنة مليئة يوم الجمعة. كلمت السيد لطفي بولعيون الذي وصل من تونس مساء الخميس وأخبرته بوفاة المرحوم وكان يعلم أنني سأسافر صباح السبت إلى أستراليا. ووعدني أن يحضر في الثامنة مساء ليستلم مفاتيح الخزنة.
أعطيته المفاتيح حين حضر أمام قدّور العسّاس وطلبت منه أن يفتح الخزنة ليطمئن على سلامتها. فاجأني بقوله إنه مازال في عطلة، ولن يستأنف العمل ولن يفتح الخزنة قبل صباح يوم الأحد، ودعته وعجبت حين هتف لي في الليل وسألني عمن سيوصلني إلى المطار؟ أجبته بأني سأذهب في سيارة أجرة، لكنه أصر على أن يوصلني بنفسه ولم يتركني إلا بعد أن توجهت إلى الطائرة".
التفت كريم إلى السيد لطفي بو لعيون قائلا: "شكرا لك على هذه الأريحية".
تمتم السيد بو لعيون بعبارة فهم منها أنه لم يقم إلا بواجبه.
تابع كريم: "ذكر السيد بو لعيون بأنه فتح الخزنة صباح يوم الأحد فوجدها فارغة، فمن سرقها بين مساء الجمعة وصباح الأحد؟"
قال مختار: "الحمد لله، فقد ظهرت براءة أبيك، أما معرفة من سرق الخزنة فهي من اختصاص رجال الأمن والقضاء".
رد كريم: "ولكن باستطاعتنا أن نساعد رجال الأمن ببعض الملاحظات والاستنتاجات".
سألت نور: "وكيف ذلك؟"
أجاب كريم: "هل تذكرين أنني كلفتك بإحضار الصحف لأطلع على ما كُتِبَ عن الحادثة".
ردت نور: "نعم وقد أحضرت لك كل ما كتب عنها".
قال كريم: "قرأتها بدقة متناهية وأول ما لفت نظري أن البوليس العلمي لم يجد إلا بصمات السيد بو لعيون على مِقبَض باب الخزنة. تساءلت: أين ذهبت بصمات أبيك وبصماتي وبصمات الوناس فكلنا لمسنا الخزنة؟ استنتجت أن لصا محترفا فتح الخزنة مساء يوم الجمعة أو يوم السبت، وسرق الخزنة ومسح البصمات دون أن يحس به أحد، وحين جاء السيد بو لعيون وفتح الخزنة يوم الأحد، بقيت بصماته وحدها على الباب".
قالت نور: "استنتاج صحيح. لماذا لم يثره أحد عند التحقيق؟"
أجاب كريم: "لأن السارق أراد في البداية أن يقنع المحققين بأن لصا محترفا هو الذي سرق الخزنة ثم غيّر رأيه وأراد أن يوجه التحقيق وجهة أخرى".
سألت نور: "لماذا؟"
أجاب كريم: "لأن شركة التأمين لن تدفع التعويض للسيد لطفي بو لعيون إذا لم تسترجع الأموال والمجوهرات المسروقة، سوف تظل تماطل وتدقق في كل صغيرة وكبيرة إلى أن تعرف الحقيقة وتمسك باللص. أمّا إذا اتـُّهِمَ أبوكِ وهو ميت ولديه أموال وعقارات تغطي مبلغ التأمين فستدفع الشركة المبلغ للسيد بو لعيون".
سألت نور بغضب: "هل تعني أن السيد بو لعيون هو الذي وجه التحقيق لاتهام أبي بالسرقة؟"
أجاب كريم: "هذا مجرد استنتاج".
هب بو لعيون واقفا وصاح غاضبا: "لا أسمح لك بتشويه سمعتي وسأقاضيك في المحكمة"، ثم صاح: "أين زوجتي؟"
نهضت السيدة مليكة بو لعيون التي كانت جالسة في الطاولة الأولى تتابع ما يحدث واتجهت نحوه مجيبة: "أنا هنا". أفسح لها الجمهور المحيط بكريم ونور وبولعيون.
قال لها: "لنخرج من هنا فوراً".
أجابته مليكة وهي تدفعه بيدها للجلوس: "هذا اتهام خطير، ومن الأفضل أن تدافع عن نفسك بدلا من أن تخرج". أفسح لها مكانا فجلست بجانبه.
تابع كريم: "ذكر السيد لطفي بو لعيون أثناء المحاكمة أنه سمع من بعض عمال المؤسسة أنني اتهمت السيد عمار بخسارة أموال الخزنة في القمار. لم يذكر ذلك على لساني بل سمعه من العمال، وقد ذكر بعض العمال أنهم سمعوا أنني قلت ذلك، ولكنْ لا أحد شهد بالضبط أنه سمع مني هذا الكلام، ويمكن أن نستنتج أن شخصاً ما بث بين العمال هذه الإشاعة ليستغلها في اتهام السيد عمار".
وقف بو لعيون مستفهما بغضب: "هل تعني أنني أنا الذي روجت هذه الإشاعة؟"
أجاب كريم: "هذا مجرد استنتاج لأنني لا أجد من له مصلحة غيرك في اتهام عمّار".
هتف بو لعيون: "المحكمة هي التي أدانته. ألا تثق بالقضاء؟"
رد كريم: "أثق بالقضاء، لكن القاضي يحكم وفق الأدلة المتاحة له، ووفق شهادة الشهود. فإذا أخفى أحدهم الأدلة أو غيّب الشهود..."
قاطعه بو لعيون: "أنا لم أخف الأدلة ولم أغيّب الشهود".
رد كريم: "أليس عجيبا أن يستخدم اسمي في المحاكمة كدليل اتهام ولا أستدعى للشهادة؟"
صاح بو لعيون مستنكرا: "وما دخلي إذا لم تستدعك المحكمة للشهادة؟"
أجاب كريم: "أعطيتك قبل السفر عنواني في أستراليا، لكنك أخبرت المحققين بأنني سافرت إلى لندن ولا تعرف عنواني هناك؟ من المرجح أنهم بعثوا إلى السفارة الجزائرية في لندن فأجابتهم بأنها تجهل العنوان".
رد بو لعيون: "ضاع مني العنوان ونسيت أنك في أستراليا. أنا رجل أعمال ومشاغلي كثيرة ولا أذكر إلا الأشياء الهامة".
سأله كريم: "هل تذكر أنني عرضت عليك قبل سفري أن أبقى شهرا أو شهرين حتى تجد من يخلف السيد عمار لكنك رفضت؟"
أجاب بو لعيون وهو يهز رأسه يمنة ويسرة: " لا أذكر".
سأله كريم ثانية: "لماذا لم تفتح الخزنة يوم الجمعة 1 سبتمبر حين طلبت منك فتحها والتأكد من سلامتها؟"
أجاب بو لعيون: "لا أذكر".
تابع كريم: "قلت لي يومها إنك ما زلت في عطلة ولن تستأنف العمل إلا صباح الأحد".
أجاب بو لعيون: "لا أذكر".
صرخ كريم: "بل تذكر جيدا لأنك قررت أن تسرق الخزنة قبل يوم الأحد، كانت وفاة عمّار فرصة لا تعوض بالنسبة إليك، تأخذ أموال الخزنة وتتهم الميت بالسرقة وتشيع بين العمال بأنه قامر بها وخسرها".
احمر وجه بو لعيون وتوقدت عيناه وانتفخت أوداجه وفقد هدوءه ورزانته. انتصب واقفا وصاح: "أنت تجاوزت الحدود".
تابع كريم: "وما سهّل لك المهمة أنني مسافر إلى بلد بعيد، صمّمت على أن توصلني بنفسك إلى المطار وأن تنتظر حتى أركب الطائرة، كنت مستعجلا على سفري لتطمئن على نجاح مخططك".
صاح بو لعيون وقد تطاير الزبد من فمه: "أتتهمني بسرقة أموالي؟ من يصدق هذا؟"
رد كريم: "سرقتها لتقبض مبلغ التأمين ولم تبال بما حل بعائلة عمار التي شردتها شركة التأمين لتدفع لك التعويض".
صاح بو لعيون: "هذا أمر فصلت فيه محكمة مختصة ولا يجوز لك اتهام الناس بالباطل".
رد كريم: "ألا تستحي من اتهام من خدمك بصدق وأمانة بالسرقة والمقامرة؟ كيف طاوعك ضميرك في أن تتسبب في تشريد عائلته؟"
فقد بو لعيون أعصابه ونهض مخاطبا زوجته: "انهضي يا امرأة. سنذهب مباشرة إلى السيد وكيل الجمهورية لأقدم شكوى ضد هذا السيد".
نهضت السيدة مليكة مجيبة: "اذهب وحدك إذا أردت فأنا لست شريكتك في الجريمة ولن أتحمل جريرة ما فعلت".
صرخ فيها بو لعيون مستنكرا: "هل جننت؟"
ردت السيدة مليكة: "إذا كنت بريئا فلماذا تخاف؟ كن مثل السيد كريم ودافع عن نفسك مثلما دافع عن نفسه".
رد بو لعيون: "أنا لست في محكمة لأدافع عن نفسي".
سألته السيدة مليكة: "أتذكر حين طلبت منك أن تعوضني عن المجوهرات المسروقة بعد استلامك مبلغ التأمين؟"
نهض بو لعيون هامسا: "لا لزوم لهذا الكلام الآن، من الأفضل أن نذهب".
تابعت مليكة: "أحضرت لي مجوهراتي نفسها وزعمت أنك اشتريتها من الصائغ الذي اشتراها من عمار، وطلبت مني ألا أتزين بها حتى تمر فترة من الزمان".
صاح بها بو لعيون: "اصمتي يا امرأة".
تابعت مليكة: "أدرك الآن أنك لم تشتر هذه المجوهرات وأنها كانت مخبأة عندك".
وضع بو لعيون يده على فمها صارخا: "قلت لك اصمتي يا امرأة وكفي عن هذا الهذيان".
نزعت مليكة يده بقوة عن فمها وصاحت: "لن أصمت. لماذا فعلت هذا بعمار وأسرته؟ اتهمت عمار بالسرقة وهو بريء فعاقبك الله في ولدنا سامي وهو في السجن الآن بسببك". والتفتت إلى نور قائلة: "كانت والدتك امرأة طيبة ومنعني زوجي من تعزيتها ومواساتها. كم آسف لذلك". ثم قالت لزوجها: "إن لم ترجع لهذه السيدة حقوقها وحقوق عائلتها التي سلبتها منها، فأنا التي سأرفع عليك دعوى في المحكمة".
رد بو لعيون: "أنا لم أسلب عائلتها شيئا، شركة التأمين هي التي صادرت أموال أبيها".
صاحت مليكة: "أنت الذي اتهمت أباها وشوهت سمعته وسلطت عليه شركة التأمين".
رد بو لعيون هامسا: "اخفضي صوتك وقومي معي إلى الدار لنتفاهم".
رفعت مليكة صوتها: "لن يكون بيننا أي تفاهم. سألغي التوكيل الذي كتبته لك، وأطلب الطلاق. لن أعيش معك بعد الآن".
خرج بو لعيون غاضبا تاركا زوجته التي عاودت الجلوس.
*
خاطب كريم نور: "الكرة في ملعبك الآن. لقد أعدت اعتبار أبيك أمام هذا الجمهور الكبير وأمام الملايين الذين يتابعوننا في التلفزيون وإذا أردت رفع دعوى لاسترداد أموالك فأنا والمحامي جاهزان لمساعدتك".
أجابت نور: "لن أرفع دعوى على أحد ما دمت قد أعدت الاعتبار لأبي".
نهضت السيدة بو لعيون قائلة: "لا يا ابنتي، لا تتنازلي عن حقوقك، وأنا أتعهد أمام الجميع أن يعيد زوجي إليك حقوقك كاملة دون حاجة إلى الدعوى، وإذا سمحت لي سأخرج الآن".
أجابتها نور: "شكرا لك يا سيدتي على موقفك النبيل ورافقتك السلامة".
*
كان المحاميان يتابعان ما يجري باهتمام وقلق. وكان عامر ينقل للمحامي الأسترالي كل كلمة أو همسة أو حركة، قال وليم جوردان: "هذه أغرب محاكمة حضرتها في حياتي".
علق عامر البكري: "وأنا أيضا"، ثم همس في أذن وليم ضاحكا: "أخاف أن يستغني عنا كريم، فقد أثبت أنه محام بارع".
رد وليم: "نعم، لم يستطع الدفاع عن نفسه فحسب بل كشف المجرم الحقيقي أيضاً".
*
تقدم كريم من نور وانحني قائلا: "والآن، هل تقبلين بي زوجا؟"
أمسكت نور بيده وأنهضته: "نعم يا حبيبي، يشرفني أن أكون زوجتك".
جلس مختار كشاهد بدل لطفي بو لعيون وعامر البكري بدل محفوظ. قال الشيخ لكريم قل للسيد علي الوافي: "زوِّجْني موكـّلتك نور". نطق كريم الذهبي بما طلبه منه الشيخ، التفت الشيخ إلى عمي علي وقال له: "قل لكريم: "زوَّجْتُكَ موكـّلتي نور على الصداق المسمى بيننا". نطق عمي علي بما طلبه الشيخ، وصفق الحاضرون.
أخرج المحامي من محفظته علبة مجوهرات مخملية كبيرة وأعطاها لكريم الذي فتحها وأخرج منها عقدا من الذهب والألماس يبهر الأبصار زين به عنق نور. تعالت صيحات الإعجاب والدهشة بين الحاضرين وتساءلوا عن ثمنه. خمّن بعضهم قيمته بالأورو وبالدولار وبعضهم الآخر بالدينار. أخرج بعدها سوارا وخاتما وقرطين من نفس نوع العقد ووضعهما في معصمها وإصبعها وقبلها من وجنتيها بين تصفيقات الرجال وزغاريد النساء.
قال كريم لنور : "والآن أقدم لك هدية العرس".
سرت همهمة بين الحاضرين وتعجبوا وحبسوا أنفاسهم في انتظار تلك الهدية، تساءلوا إن كان هناك أغلى من طقم المجوهرات الذي يقدر ثمنه بمائة ألف دولار على الأقل؟
أخرج المحامي من محفظته ظرفاً ملفوفا بالورق الملون وسلمه لكريم، أعطى كريم الظرف لنور التي فتحته بشوق لتعرف ما فيه، أخرجت منه وثيقة وقرأتها ثم قالت: "عقد تمليك الفيلا والقاعة التي نحن فيها".
قبلت كريم من وجنتيه اليمنى واليسرى هاتفة بصدق: "شكرا لك يا حبيبي".
*
هبت حسيبة واقفة وقالت لنوال: "لم أعد أستطيع الاحتمال فالحر شديد وأكاد أختنق. أريد الخروج من هنا فوراً".
ردت نوال متعجبة: "أين الحر؟ أكاد أموت برداً من شدة التكييف".
صاحت حسيبة غاضبة: "قلت لك إني أكاد أختنق، ألا تفهمين؟"
ردت نوال وهي تنهض: "فهمت، فهمت، وأنا أيضا أكاد أختنق. هيا بنا".
*
صافح مختار العروسين وتمتم بعبارة حاول جهده أن يبعث فيها الحرارة وعلى وجهه ابتسامة حزينة: "مبروك، وبالرّفاء والبنين بحول الله".
تسلل بعد ذلك إلى خارج القاعة يجتر خيبته وحزنه دون أن يشعر به أحد، أدرك أن نور قد ضاعت منه إلى الأبد.
*
تقدم بوعلام من كريم وهو مطأطئ رأسه وقال بصوت خافت: "لقد أخطأت بحقك. كنت غبيا، وأرجو أن تسامحني...
قاطعه كريم بلهجة لوم وتقريع قائلا: "لو أصابت العصا رأسي لقتلتني. كنت ستقتل بريئا وتقضي بقية حياتك في السجن، ولكني أسامحك فلولاك لما عرفت ما حدث لعائلة عمار ولما استطعت كشف سارق الخزنة، وأنصحك بأن لا تحاول تطبيق العدالة بيدك مرة أخرى".
تمتم بو علام بعبارات الشكر والتهنئة للعروسين ثم انسحب.
*
أوعز كريم للفرقة الموسيقية أن تبدأ العزف فبدأت تعزف بعض المقطوعات الجزائرية. كان عمي علي أول الراقصين رقصة المناديل العاصمية، فهو اليوم أسعد الناس بزواج نور واكتشاف براءة كريم. كان يرقص بكل جوارحه بخفة ورشاقة أدهشت الحاضرين فصفقوا له طويلا. ترك الحلبة لكريم ونور فشرعا يرقصان بين تصفيق الرجال وزغاريد النساء و"تكتكات" كاميرات الهواتف المحمولة تلتقط صورهما وتخلد هذه اللحظات السعيدة. توسعت بعد ذلك حلقة الرقص فاشترك فيها المدعوون والمدعوات من كل الأعمار.
الخاتمة
بدأ الصحفيون والمصورون يتوافدون تباعا على القاعة وكل منهم يريد أن يحظى بحديث حصري مع كريم ونور.
أمسك كريم يدها وقبلها وهمس في أذنها بحنان: "تعبت في البحث عنك وأنت كنت بقربي. كنت أريد أن أساعدك في إعادة الاعتبار لأبيك وتحصيل حقك".
أمسكت نور يده وقبلتها وردت بدلال وخجل: "وأنا التي كنت أنوي الانتقام منك. سامحني".
قبل يدها من جديد قائلا: "لا لوم عليك فقد كنت معذورة ومن حسن الحظ أنك دعوت من ظننت أنهم أدلة إدانتي لأثبت من خلالهم براءتي".
هتف بعض الشباب: "قبّلها، قبّلها".
ضمّها إليه وقبّلها ثم اتجه العريس والعروس بخطى بطيئة إلى باب القاعة المؤدي إلى الفيلا بين تصفيق الرجال وزغاريد النساء ترافقهما فرقة الزورنة بلباسها التقليدي الأخضر والأحمر وأنغام الزورنة العذبة وإيقاع الطبول المدوّي، فتح كريم الباب ودعا نور إلى الدخول ثم تبعها، وأراد حارسه سيف أن يدخل معهما فدفعه بيده بلطف وأغلق الباب.
توقفت أنغام الزورنة وبدأت الفرقة الموسيقية العصرية تعزف موسيقى أغاني العرس العاصمية ورقص المدعوون والمدعوات على تلك الأنغام الشجية حتى الصباح والبهجة تعلو وجوههم والفرحة تغمر قلوبهم.
"تمّت بحول الله"
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الــعرس
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: العرس المشهود
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات