الفصل الثالث عشر
من رواية "العرس المشهود"
للكاتب عبد الله خمّار
الــعرس
زينت القاعة الوردية الملاصقة لفيلا كريم الذهبي والتي تتسع لمئات المدعوين بالمصابيح والأوراق الملونة. ووضعت المقاعد الجلدية الفاخرة حول الطاولات الخشبية الفخمة المغطاة بمفارش وردية مطرزة بالزهور، والممتدة على طول القاعة في أربعة صفوف، تفصل بينها ممرات تسمح للمدعوين والنادلات بالتحرك دون عناء. وأضيئت الثريات العملاقة التي تتوسط القاعة في صف لا يكاد ينتهي. وكانت المكيفات تعمل على ترطيب جو القاعة فنحن في منتصف شهر جويلية.
كانت نور قد طلبت من كريم الذهبي أن يؤجل العقد الشرعي إلى يوم العرس حتى يشهد المدعوون كلهم على عقد زواجها فقال لها:
" طلباتك أوامر، سأجعل الجزائر بل العالم كله يشهد على عقد زواجنا، وسأتعاقد مع قناة تلفزيونية لنقل مراسيم العقد مباشرة إلى المشاهدين في الجزائر وفي أنحاء العالم". وبالفعل، كانت معظم القنوات التلفزيونية حاضرة في قاعة خاصة وضعت تحت تصرف صحفييهم في الفيلا لهذا الغرض، وثبتت ثلاث كاميرات في السقف وكاميرا وحيدة متحركة في القاعة الوردية. أما المخرج فكان في قاعة المصورين ينظم المشهد بالانتقال من كاميرا إلى كاميرا حسب ما يقتضيه الحال وتنفذ الكاميرات تعليمات المخرج، وقد وضعت شاشة عملاقة في صدر القاعة الوردية وشاشات متوسطة الحجم ثبتت على الجدران والأعمدة ليتابع المدعوون مراسيم العقد. تناوبت فرقتان موسيقيتان على إمتاع المدعوين بأنغامهما الساحرة: فرقة الزورنة التقليدية والفرقة الموسيقية العصرية حيث خصص لهما فضاء في يسار القاعة.
بدأ المدعوون يتوافدون بدءاً من التاسعة مساءً من المدخل الرئيسي على يمين القاعة، بكامل زينتهم، وعبقت في الجو مختلف أنواع العطور النسائية والرجالية، وكانت العقود والمشابك والأساور والخواتم الذهبية والماسية التي تزين أعناق النساء وصدورهن ومعاصمهن وأصابعهن تلمع ببهاء تحت أضواء الثريات.
هو مهرجان بديع وفريد للأزياء تعرض فيه أجمل الفساتين والقفاطين والكراكو والأزياء التقليدية العاصمية والوهرانية والقسنطينية والشاوية والقبائلية والصحراوية، وكذا الساري الهندي والفساتين المستوردة من دور الأزياء الكبرى الفرنسية والإيطالية، كما أنه مهرجان للمجوهرات للذهب والألماس والأحجار الكريمة النادرة تتزين بها صدور وأعناق الصبايا الحسناوات والعجائز الشمطاوات يتباهين بها أمام الأخريات.
وقف كريم الذهبي ونور بجانب المدخل يستقبلان المدعوين ويستلمان الهدايا فتأخذها منهما فتاتان مكلفتان بوضعها في قاعة الهدايا. كانا أبهى عروسين. كان فستان نور يجمع بين القفطان التقليدي والثوب العصري، يبهر الأبصار بلونه الخمري وبالماسات البراقة التي ترصعه، وقد خيط بحي القصبة وجلبت الماسات التي ترصعه من جنوب إفريقيا.
وفيما عدا فساتين العروس التقليدية التي خيطت كلها في الجزائر، هناك أربعة فساتين عصرية جلب اثنان منهما من باريس واثنان من روما بعد التأكد من أخذ المقاسات الصحيحة، ومن المفروض أن ترتدي العروس الفساتين كلها تباعا في هذه الليلة التي تدوم حتى ساعات الفجر الأولى.
لو كانت أمها حاضرة لقرأت المعوذتين لتحفظ ابنتها من الحسد، ولو كانت خالتي زهية موجودة لبخرتها وعلقت في صدرها حجاب المحبة والقبول الذي يوفق بينها وبين زوجها ويحميها من كيد السحرة وعمل المشعوذين.
أما كريم فكان يرتدي بذلة سوداء غامقة خيطت خصيصا لعرسه مع ثلاث من مثيلاتها في أحد أهم دور الأزياء الباريسية العريقة.
*
دخل عمي علي يرتدي سروالا تقليديا بنّيا "سروال دزيري" وسترة من نفس اللون، ويعتمر شاشية بيضاء. بدا في صحة جيدة وقدمته نور لكريم الذي رحب به وسُرَّ لرؤيته إذ اطمأن على إتمام العقد هذه الليلة. ودخل بعده المحامي عامر البكري مصحوبا بالمحامي الأسترالي وليم جوردان الذي تشي ملامح وجهه وزرقة عينيه وشقرة شعره واحمرار بشرته بأصله الإنجليزي. كانا يرتديان بذلتيهما "السموكن" الأنيقتين فسلما على العروسين، وجلسا في الطاولة الأولى من الصف الأول على يمين القاعة.
دخل لطفي بولعيون ببذلته "السموكن" الأنيقة مرفوقا بزوجته الحسناء مليكة، التي تبدو وكأنها في الثلاثين بحيويتها ونعومة بشرتها وفي قفطانها التلمساني الخمري. سلما على كريم ونور وقدم بو لعيون نفسه قائلا: "مدير مؤسسة بولعيون للصناعات الخزفية والزجاجية"، ثم أضاف مخاطبا كريم: "شكرا على الدعوة".
رد كريم: "تشرفنا". وجلسا في الطاولة الأولى من الصف الثاني على يمين القاعة. خاطب كريم نور متعجبا: "شكرني على الدعوة، ولست أنا الذي دعوته!" وسألها:"هل أنت التي دعوته؟"
أجابت: "لا يهم من دعاه ما دام قد حضر".
*
وصلت ماما حكيمة وظهرت أمارات المفاجأة في وجه كريم عند رؤيتها، لكنها سلمت عليه وعلى نور دون أن تعرفه. ثم دخل محافظ الشرطة رابح بالزي الرسمي يحمل علبة كبيرة ملفوفة بالورق الملون قدمها لنور وهو ينزع "كاسكيتته" ويصافحها قائلا: "أشكرك على الدعوة".
شكرته على الهدية وقدمته لكريم. هنأهما بحرارة وقال لهما معتذراً: "عندي مناوبة الليلة ولا أستطيع إكمال السهرة معكما".
*
وصل معظم المدعوين وأكثرهم من علية القوم رجالا ونساءً من الوزراء والنواب وأعضاء مجلس الأمة ورجال الأعمال والإعلاميين الكبار والأدباء المرموقين بالإضافة إلى من دعتهم نور من جريدة "آفاق جزائرية" باستثناء المدير الذي اعتذر لمرضه.
وبدأت النادلات بابتساماتهنّ الجذابة ومآزرهن وقبعاتهن الوردية، يطفن على الموائد بأطباق الفطائر و"البيتزا" والحلوى الجزائرية المتنوعة وأباريق عصائر البرتقال والأناناس والتفاح الطبيعية.
*
انسحبت نور برهة ثم عادت وقد ارتدت ثوب الزفاف الأبيض الأنيق الذي صمم خصيصا لها في "فيينّا". بدأ الراقصون يأتون إلى الحلبة وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف الفالس. قوبلت نور بالتصفيق والزغاريد حين ظهورها بثوب العرس ورقصت مع كريم رقصة الفالس.
كان يبدو جلياً أنهما أسعد زوجين في العالم؛ كريم الذهبي بوسامته وثرائه ونور بجمالها الرائع، رمقتهما عيون الحساد بنظرة نارية؛ تحسرت النساء لأنهن لم يحظين بعريس مثل كريم، وتحسر الرجال على حظهم فليس لهم مال كريم ولا زوجة جميلة مثل نور.
همست إحدى المدعوات لجارتها في إحدى الطاولات القريبة من العريسين وهي تتنهد بحرقة:" ما أتعس حظنا! هل رأيت ثوب نور المرصع بالألماس؟ لم أر من زوجي قطعة ألماس منذ زواجنا".
أجابتها: "وأنا أيضا هل تسمين أزواجنا رجالا؟ إنهم أشباه رجال لا يعرفون سوى الأمر والنهي و"الزعاف" و"التشناف". هل تعلمين أين قضيت شهر العسل؟ في دار والدته أطبخ وأكنس".
ردت الأخرى:" وأنا قضيت شهر العسل في الشقة أطبخ كل يوم لإخوته وأخواته وأصدقائه".
تنهدت المحاورة الأولى وقالت بحسد ومرارة: "لا شك أن نور ستقضي شهر العسل في أستراليا".
أجابتها الأخرى: "سمعت أنها ستقضيه مع زوجها في جزر هاواي".
أما الزوجان فهمس أحدهما للآخر: "هل رأيت قوامها، إنها خلقت من الزبدة وليس من الشحم كنسائنا".
أجابه الآخر: "وهل يقارن غصن البان بالشكارة؟ كيف تقول شكارة بالـعربية؟"
أجابه: "الشكارة هي الكيس الكبير ولكن المصريين يقولون عنها "شوال" وهو أبلغ. تصور شوالاً من الرز أو شوالا مملوءا بالفول يكاد ينفجر، هؤلاء هم نساؤنا. لا بد أن أعيد الزواج وأمتع نفسي في آخر حياتي".
*
وفي طاولة أخرى همس أحد المدعوين من الإطارات الهامة في أذن التاجر الكبير: "لقد عملت مع كل الرؤساء وكل الحكومات، وتبوأت أرفع المناصب، وسافرت في مهمات لا حصر لها خلال ثلاثين عاماً، ولم أستطع جمع ما ينفقه هذا الرجل في ليلة واحدة".
رد التاجر: "وأنا عملت في الاستثمار والتجارة خلال عشرين عاماً وقد حصلت على صفقات كثيرة لم يحلم غيري من التجار بها، ومع ذلك لم أجمع خمسة بالمائة من ثروة هذا الرجل".
قال صاحبه: "الاستثمار في استراليا يختلف عن الاستثمار في الجزائر. هناك أرباح وفيرة بسبب التصدير إلى البلدان المجاورة".
*
قال أحد رؤساء الجمعيات الأدبية لجاره في الطاولة الأولى في الصف الرابع:" لو أن هذا المال الذي أنفق على العرس أعطي لجمعيتنا لاستطعنا أن ننهض بالثقافة في الجزائر. نحن بالكاد نستطيع طباعة نشرية فصلية تغطي نفقاتها وزارة الثقافة".
أجابه صاحبه: "لو أن كريم الذهبي يموّل جائزة أدبية كل عام يسميها باسمه".
- "وهل تكون جائزة جزائرية أم عربية"؟
- " لم لا نؤسس ثلاث جوائز واحدة جزائرية والثانية مغاربية والثالثة عربية".
*
قال إمام المسجد الذي جاء ليعقد القران الشرعي: "لو أن هذه الأموال التي تنفق في العرس أعطيت زكاة لجمعية المسجد لما بقي فقير في الحي، على كل حال، سأطلب من كريم الذهبي أن يعطي زكاة أمواله لجمعية "المسجد".
*
قالت الأم لابنتها البدينة ذات الثمانية عشر عاماً في إحدى الطاولات وسط القاعة: "انظري إلى قد تلك المرأة، ألا تودين أن تكوني مثلها في الخفة والرشاقة؟"
لم تجب الفتاة فواصلت الأم: "لا بد أن تتوقفي عن أكل الشكولاطة والحلويات لتتزوجي من فارس أحلامك".
أجابت الفتاة:" أفضل الشكولاطة على الزواج، فالزواج كله هم وغمّ، أليس هذا رأيك؟ ألا تتذمرين كل يوم من عمل البيت والعناية بالأولاد؟"
قالت الأم: "اخفضي صوتك حتى لا يسمع أبوك ما تقولين".
ردت الفتاة: "ولماذا لا تتوقفين أنت عن أكل الحلويات لتعودي رشيقة كما كنت من قبل؟"
أجابت الأم: "أنا تزوجت وانتهى الأمر، قبل الزواج لا يجب أن تسمحي لنفسك بأكل كل ما تشتهينه، والأمر يختلف كثيرا بعد الزواج".
علقت الفتاة: "تقصدين بعد أن يقع الفأر في المصيدة".
ضحكت الأم ضحكة مكتومة ووضعت يدها على فم ابنتها.
*
قالت إحداهن لجارتها على الطاولة الثالثة من الصف الثاني: "ما الذي أعجبه فيها؟ هي سمراء، عيناها ضيقتان، وجسمها نحيل، تكاد تكون هيكلا عظميا لولا الثوب الذي يغطي عيوبها".
أجابتها جارتها:" أنت أجمل منها".
- "وأنت أيضا، لكن الدنيا حظوظ".
- "انتظري، أعرف هذا الوجه جيدا، دعيني أتذكر".
- "وأنا أيضا، وجهها مألوف بالنسبة إلي".
ارتسمت ابتسامة انتصار على وجهها وقالت: "لقد تذكرت إنها الفتاة المغرورة التي كانت تفخر علينا بأن لديها بيانو في الدار، ولديها مدرس موسيقى يعلمها العزف والسولفيج".
- "نعم، إنها ابنة سارق الخزنة، ماذا كان اسمه؟"
- "لا أدري، ولكن لا بد أن يهمس أحد في أذن زوجها المخدوع أنها ابنة لص، سأخبر زوجي".
كانت الموسيقى عالية وكان الكلام همسا في الأذن، لم يفهم زوجها في البداية ما تقصده وحين أدرك قصدها سألها: "وما دخلنا في هذا؟ وما مصلحتنا؟"
أجابت: " مصلحتنا إظهار الحق".
ضحك زوجها ضحكة أقرب إلى القهقهة ثم قال: "من يسمعك يظن أنك تحبين إظهار الحق فعلا. دعك من هذا واستمتعي بالحفلة".
ضغطت على أسنانها من شدة الغيظ وسكتت.
*
دخلت حسيبة ونوال إلى قاعة العرس، وقد ارتدت حسيبة ثوبا عصريا ضيقا قرمزي اللون، عاري الكتفين، يبرز مفاتن صدرها، ويرتفع بمقدار إصبعين عن ركبتيها. وقد بدت فيه ممشوقة القوام. وزادت التسريحة المناسبة، والماكياج المختار بعناية وجهها بهاء وحسنا.
وارتدت نوال قفطانا وهرانيا فضفاضا أزرق، وغطت رأسها بغطاء من لون القفطان، بحيث لا يظهر من جسمها إلا وجهها الأسمر الغامق وكفّاها.
تساءلت نور: "ما الذي يجمع بين المتعرّية والمتحجبة؟" ولم تدر أن ما يجمع بينهما هو حسدهما وغيرتهما منها، والبحث عن عريس غني. عانقت كل منهما نور بحرارة وسلمتا على كريم وتركت حسيبة يده في يدها برهة لعله ينظر إليها ويسحر بجمالها فيستبدلها بنور.
دخل عباس ومعه نعيمة صديقة نور، تعانقت الصديقتان بحرارة، وقدم عباس نفسه لكريم على أنه زوج صديقة نور الوحيدة، وتمنى على كريم أن تربط العائلتين في المستقبل صداقة حميمة. ولولا أن نعيمة سحبته من يده لظل واقفا بجانب كريم يحدثه عن نفسه وعن صداقة نعيمة بنور.
*
جلس الشيخ على الكنبة الكبيرة في صدر القاعة وعلى يمينه كريم الذهبي وعلى يساره عمي علي ونادى الشاهدين: الشاهد الأول عامر البكري محامي كريم والشاهد الثاني هو مختار السعيد.
قال عمي علي: "تأخر مختار"، ونهض مناديا: "أرجو من السيد لطفي بولعيون أن يتقدم ليشهد على عقد الزواج".
تقدم السيد لطفي بولعيون، وجلس هو والمحامي على الكنبتين المنفردتين على يمين ويسار الكنبة الكبيرة. أعطى كريم الإشارة للمذيع لبدء الإرسال، فبدأ مذيع قناة "البيضاء" بوصف الحفل وتوجهت الكاميرا إلى صدر القاعة لنقل مراسم إجراء العقد.
ابتسم عمي علي وقال للشيخ: "لنبدأ". طلب الشيخ بطاقات التعريف من الشهود وسجلها، ثم سأل كريم وعمي علي: "هل سميتم الصّداق؟"
أجابه عمي علي: "نعم؛ عشرة دنانير مقدم وعشرة دنانير مؤخر".
قال الشيخ: "على بركة الله". وألقى كلمة عن أهمية الزواج استشهد فيها بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ثم التفت إلى كريم طالبا منه أن يقول للسيد علي الوافي: "زوِّجْني موكلتك نور". فنطق كريم الذهبي بما طلب منه الشيخ. التفت الشيخ إلى عمي علي وقال له: "قل لكريم: "زوجتك موكلتي على الصداق المسمى بيننا".
وقبل أن ينطق عمي علي بهذه العبارة اقتربت شابة في حوالي الرابعة والعشرين وقالت بصوت عال مخاطبة نور بلغة عربية فصيحة: "أنصحك يا سيدتي بعدم إتمام هذا الزواج".
ران الصمت لحظة وقطعته نور بسؤالها: "من أنت؟ وما معنى هذه النصيحة؟"
أجابت الفتاة التي كانت ترتدي بذلة "كاكية" تناسب السفر ولا تناسب حفلة العرس بلهجة مشرقية واضحة: "أنا سلاف قنواتي ابنة أخت زوجة السيد كريم الذهبي وقد قدمت من أستراليا لأحذرك من أن تتزوجي مزورا ومحتالا".
بدت الهمهمة بين الحضور. التفتت نور إلى كريم سائلة: "أتعرفها؟"
أجاب كريم بهدوء: "نعم أعرفها، هي تدعي أن المرحومة زوجتي أوصت لها بنصف الثروة وأوصت لي بالنصف وهذا غير صحيح".
ردت سلاف: "خالتي السيدة نجاح أبلغتني أنها أوصت لي بنصف ثروتها وأنها أودعت الوصية مكتب المحامي السيد وليم جوردان".
نهض المحامي عامر البكري واقترب من مذيع القناة التلفزيونية صارخا: " أوقف التسجيل واقطع الإرسال فورا".
صاح كريم الذهبي معترضا: " لا توقف التسجيل والإرسال، فليس هناك ما أخفيه، حياتي كتاب مفتوح ليس فيه ما يعيب أو ما أخشى أن يطلع الناس عليه".
وأضاف بهدوء: "زوجتي المرحومة أوصت لي بكل ثروتها وأوصت أن أعطيك مليون دولار لقاء قيامك بخدمتها أثناء مرضها".
كان المدعوون الذين يجلسون على الطاولات قد استبطؤوا إتمام إجراء العقد وبدؤوا يتحلقون حول طاولة الشيخ والشهود يتابعون باهتمام ما يحدث.
خاطب كريم بالإنجليزية المحامي وليم جوردان: "سيد جوردان، هل تعرف هذه المرأة؟"
أجاب المحامي وليم: "نعم، أعرفها يا سيدي، إنها سلاف ابنة أخت المرحومة السيدة نجاح".
اقترب منه كريم وسأله: "إنها تدعي أن المرحومة السيدة نجاح قد أوصت لها بنصف تركتها وأنك أشرفت على كتابة الوصية".
أجاب وليم: هذا غير صحيح. قلت لها سابقا: "السيدة نجاح أوصت لزوجها بكل تركتها".
سألها كريم: "هل لديك دليل على صحة ادعائك؟"
ردت سلاف بكل ثقة: "نعم، لدي شاهدة تؤكد أن الوصية موجودة في خزنتك. وستذهب معي إلى سدني بأستراليا لتشهد أمام المحكمة بذلك".
علق كريم بلهجة لوم وعتاب: "ما دمت تقاضينني في أستراليا، فلماذا جئت لتفسدي عرسي؟"
ردت سلاف: "أردت أن أعرف الناس بألاعيبك وخداعك وأن أحذر هذه السيدة من أن تتزوجك". صاحت نور مخاطبة سلاف: "لا تشتمي خطيبي من فضلك، أنت ضيفتنا الآن فالتزمي آداب الضيافة". همس عمي علي في أذنها فابتعدت وجلست على إحدى الطاولات القريبة في القاعة. كان المحامي عامر البكري يترجم للمحامي وليم جوردان الحوار بين نور وسلاف، بينما جلس محفوظ الجراح سائق كريم الذهبي كشاهد بدلا منه لانشغاله بالترجمة لوليم جوردان.
*
اتكأت نور على كتف كريم، وكان يبدو على وجهها التعب. سألها: "ما بك يا حبيبتي؟"
أجابته: "أحس بدوار وصداع خفيف، سأذهب إلى غرفتي لأستريح قليلا ثم أعود".
سألها بلهجة قلقة: "هل أستدعي الطبيب؟"
أجابت: "لا لزوم لذلك، أتم الإجراءات أنت وعمي علي ولا تقلق علي. كلمني بالمحمول بعد إتمام العقد". واتجهت إلى الباب الموصل بين القاعة والفيلا ففتحته ودخلت إلى الفيلا.
*
زاد عدد المدعوين الذين يتابعون ما يجري، التفت كريم إلى الشيخ قائلا: "تابع من فضلك".
خاطبه الشيخ: "أعد طلبك من السيّد علي الوافي". قال كريم لعمي علي:"زوِّجْني موكلتك الآنسة نور".
وقبل أن ينطق عمي علي، اقترب بوعلام الوناس صائحا: " هذا الزواج باطل لأن السيد الذي يدعي أنه كريم الذهبي هو في الحقيقة عبد الكريم الجايح الذي سرق خزنة مؤسسة لطفي بولعيون قبل عشر سنوات".
ضحك بعض الحاضرين لأنه كان ينطق السين والصاد شينا، لكنه لم يأبه لضحكهم وأضاف:
"أنا بوعلام الونّاس وقد نذرت نذرا إن برّأ الله ولدي يحيى أن أعترف أمامه وأمام الناس جميعا بما حصل قبل عشر سنوات لأبرِّئ عمار الشطي. وأشهد أني رأيت السيد عبد الكريم الجايح الذي يسمي نفسه كريم الذهبي يسرق خزنة مؤسسة بو لعيون وأنا شاركته بالسرقة".
ظل كريم هادئا وأجابه: "ألم أقل لك إن عبد الكريم الجايح مات منذ عشر سنوات؟" ثم سأله ساخرا: "ولماذا سكت كل هذه السنوات ولم تخبر صاحب المؤسسة؟ أنت تتهمني بلا دليل وسوف أقاضيك بتهمة القذف والتشهير، لقد حذرتك سابقا وقد أعذر من أنذر، سأجعلك تقضي بقية عمرك في السجن".
أجاب الوناس: "لا يهمني السجن فقد برّأت ذمتي".
*
التفت كريم إلى عمي علي قائلا: "لقد أضعنا وقتا طويلا في هذه اللعبة السخيفة".
دخل مختار فجأة واقترب من عمي علي وأحنى رأسه عليه وهمس في أذنه فأخذ يهز رأسه وينظر شزرا إلى كريم وقال: "هناك شاهدة تصر على أن تدلي بشهادتها قبل إتمام العقد".
قال كريم متضجرا: "نتم العقد أولاً".
رد عمي علي معتذرا: "لقد وكـّلتني نور والوكيل مؤتمن، ولا يمكنني إتمام العقد قبل أن أعرف الحقيقة".
سأل كريم متذمرا: "من هي هذه الشاهدة؟"
أجاب عمي علي: "عاملة تنظيف اسمها زهية وينادونها خالتي زهية. كانت تعمل في مؤسسة بو لعيون".
ظهرت الحيرة على وجه كريم. دخلت فتاة في أوائل العشرينات هي رسامة الكاريكاتير باية، وهي تدفع كرسيا متحركا، عليه امرأة ترتدي ثوبا أزرق، وتغطي رأسها ووجهها بخمار أزرق شفاف، يظهر من خلاله وجهها ذو التجاعيد وخصلة بيضاء من شعرها. قالت الفتاة: "خالتي زهية تعتذر لأنها تغطي وجهها بهذا الخمار لأن الضوء المبهر يؤذي عينيها".
فوجئ كريم بظهور خالتي زهية. إنها هي بوجهها الأسمر الشاحب وعينيها الغائرتين الحزينتين، لا شك في ذلك. لم يخف الخمار الأزرق الشفاف ملامحها.
سألها عمي علي: "ما الذي تريدين قوله؟".
أجابت خالتي زهيّة بصوتها الحاد الطفولي وهي تشير إلى كريم: "هذا السيد هو عبد الكريم الجايح".
اعترض كريم وعلق بلهجة غاضبة: "ألم ننته من هذه القضية؟ عبد الكريم الجايح مات منذ عشر سنوات".
ردت خالتي زهية صائحة بصوتها الحاد: "الدليل في هذه الورقة".
قال كريم في نفسه: "ما الذي يحدث؟ أنا متأكد من موت خالتي زهية، ولا يمكن أن يعود الميت إلى الحياة".
أخذ عمي علي الظرف وفتحه وأخرج الوثيقة وطلب من مختار أن يقرأها. اطلع عليها مختار وقال: "هذه صورة عن المرسوم الرئاسي الذي صدر قبل عشر سنوات بتغيير اسم السيد عبد الكريم الجايح إلى عبد الكريم الذهبي وهو منقول من الجريدة الرسمية".
سرت همهمة استنكار بين الجمهور. وقف المحامي عامر البكري معلقا: "القانون لا يمنع تغيير الاسم، وقد غير السيد عبد الكريم اسمه وفقا للقانون، وحين يغير المواطن اسمه لا يجب أن ينادى باسمه السابق. اسمه الجديد كريم الذهبي".
صاحت خالتي زهية: "ولكن السيد كريم مسؤول عن الأعمال التي ارتكبها باسمه القديم".
تملكه الغضب فجأة فسألها: " من أنت؟ أنت لست زهيّة. زهيّة ماتت منذ مدة".
همست المرأة في أذن الفتاة فتوجهت بالخطاب إلى كريم: "تسـألك كيف عرفت أنها ماتت، أنت حاولت قتلها لأنها تعرف أنك سارق الخزنة، رأتك وأنت تحمل شكارتين كبيرتين سوداوين وتخرجهما من المؤسسة".
أجاب بعصبية: "لم أقتلها. ماتت مسمومة بالكاشير. رأيتها صدفة وأنا عائد من حديقة التجارب بالحامة، فرحت بها وقررت مساعدتها لكنها ماتت".
اقترب منها وسألها مرة ثانية: "من أنت؟" ورفع الخمار عن وجهها فصرخ: "هذا قناع. من أنت؟ ومن سلطك علي؟ أعداء النجاح وأعداء البلد سلطوك عليّ لكيْ لا ينجح المشروع. انزعي القناع وإلا سلمتك لرجال الأمن لأنك تتهمينني زوراً ودون دليل ملموس".
وقفت المرأة ونزعت القناع فصرخ كريم مندهشا ومستنكرا: "نور! أنت! لا أصدق ما أرى".
خاطبها بلهجة عتاب مريرة: "لماذا يا نور تريدين طعني في الظهر، وأنا الذي أحببتك واخترتك من دون النساء جميعا لتكوني شريكة حياتي ومشروعي وأموالي؟. من وضعك في طريقي؟ و كيف اشتروك لتحاولي تدميري؟"
علقت حسيبة: "اتق شر من أحسنت إليه".
وقالت نوال: "عضت اليد التي أكرمتها بدل أن تقبّلها".
أجابته نور بجفاء: "لم يشترني أحد ولكن..".
قاطعها كريم موبخا: "ولكن ماذا؟ هل ضغطوا عليك لتخونيني وتمارسي لعبتك القذرة؟"
أجابته نور معترضة: "لم يضغط علي أحد، لقد أعجبت بك وأحببتك بصدق ورأيت فيك عوض الأب والأخ اللذيْن فقدتهما، بل ولمست فيك بعضا من حنان الأم. ولكنني سمعت مكالمتك بالصدفة مع محاميك في استراليا وكان الأنترفون مفتوحا، ففوجئت بجشعك وظلمك لهذه السيّدة وإخفائك وصية خالتها. كنا يومها متواعدين على الغداء فاعتذرت بحجة صداع عنيف ألمّ بي وهربت. كنت أنوي ألا أعود أبدا، لولا أن أحد الأصدقاء الأعزاء قال لي: "لا يجب أن تهربي من المعركة، هذه المرأة مظلومة مثلك فيجب أن تقفي معها وتساعديها على استعادة حقها، وأنا الشاهدة التي ستذهب معها إلى سدني وتشهد بالحق أمام المحكمة".
رد كريم بحماس: "الآنسة سلاف ليست مظلومة، لقد خدعتك هذه السيدة ولولا أنها قريبة المرحومة زوجتي وأنها من عائلة مرموقة ومحترمة لوضعتها في السجن. زوجتي أوصت لها بنصف ثروتها لتساعد أهلها الذين دمرت ديارهم في حلب فلجأ من بقي حيا منهم إلى تركيا. كانت زوجتي تنوي بهذا المال استقدامهم إلى أستراليا وإيجاد سكن محترم لهم. ومع الأسف، خانت الآنسة سلاف ثقة خالتها فيها وسرقت مجوهراتها ظنا منها أن خالتها مريضة وستموت دون أن تكتشف السرقة، واستطاع البوليس الأسترالي أن يصل إلى السارق واعترف بأنه عشيقها وبأنها هي التي أعطته المجوهرات. سامحتها زوجتي وشهدت أمام البوليس بأنها هي التي أعطتها المجوهرات لتبيعها ثم نسيت، لكنها فقدت الثقة فيها وغيرت الوصية. وشهد على الوصية الثانية نفس الشهود الذين شهدوا على الأولى. وأوصتني زوجتي بالتكفل بأهلها الحلبيين وبها أيضا وهذا ما فعلته وعند المحامي الدليل على كل التحويلات.
سألته نور باستفزاز: "ولماذا أنكرت أنت والمحامي وجود الوصية الأولى؟"
أجابها كريم بهدوء: "لم يرد المحامي جرح مشاعرها حين تعرف أن خالتها غيرت الوصية لأنها اكتشفت أنها لصة، وإذا غيّر الإنسان وصيته فالوصية الأولى تعتبر لاغية لا وجود لها من الناحية القانونية. لكنني أردت أن أحتفظ بالوصية الأولى لأتذكر دائما أن زوجتي غيرت الوصية لتحمّلني مسؤولية أهلها في حلب وحتى لا أنسى ذلك أبدا.
وإذا كان لدى الآنسة سلاف ما تقوله فلتتفضل. التفت الحاضرون في القاعة يبحثون عنها فلم يجدوا لها أثرا.
التفت كريم إلى نور قائلا: "كنت طيلة الوقت تمثلين علي وقد أجدت الدور".
أجابته نور بهدوء وقد ضبطت أعصابها: "أنت مخطئ. لم أمثل عليك. قبلت أن أتزوجك بمحض إرادتي وكنت سعيدة بذلك. كنت أبحث عن عبد الكريم الجايح لأعيد الاعتبار لأبي. كنت أنوي أن أصارحك لتساعدني في البحث عنه ولم أكن أدري أنك عدوي الذي أبحث عنه".
سألها بحدة وهو متجهم الوجه : "قلت إنك تريدين إعادة الاعتبار لأبيك! من أبوك؟"
ردت نور بحدة وحقد: "أبي الذي اتهمته بسرقة خزنة مؤسسة بولعيون وادعيت أنه مقامر مع أنك أنت سارق الخزنة. أبي عمار الشطي".
ظهرت الدهشة على وجه كريم وسألها غير مصدق: "أنت ابنة عمار....
لكن بوعلام الوناس لم يتركه يكمل الجملة إذ رفع عصاه فجأة وهوى بها على رأس كريم بكل قوته صارخا: "خذ أيها المجرم". لكن العصا أخطأت رأسه وهوت على عضد ذراعه اليسرى. ترنح كريم وفقد بوعلام توازنه وسقط الاثنان على الأرض.
اقترب طبيب كريم الخاص لإسعافه. وأحاط به المحاميان عامر البكري ووليم جوردان والسائق محفوظ وحارسه الشخصي سيف. وهرع عمي علي ومختار للعناية ببو علام الوناس.
تجاهلت نور ما حدث وتابعت: " تريد دليلا ملموسا. حسنا، هذا هو الدليل".
أعطت نور الإشارة لمختار فوضع قرص الفيديو في جهاز قارئ الأقراص "الفيديو ديسك". توقف بث التلفزيون فجأة وظهر على الشاشة العملاقة والشاشات الأخرى كريم الذهبي وبوعلام الونّاس يتحاوران.....
قال مذيع قناة البيضاء بحماس: "ننقل لكم على المباشر ما يجري في هذه القاعة. يبدو أن الملياردير كريم الذهبي متهم بسرقة خزنة مؤسسة لطفي بولعيون قبل عشر سنوات والتي أدين فيها أبو عروسه".
بدأ الصحفيون يرسلون إلى صحفهم عبر هواتفهم المحمولة بعض العناوين والأخبار. أرسل مختار إلى صحيفة آفاق جزائرية العناوين التالية: "اعترافات كريم الذهبي". و"كريم الذهبي يعترف ويهدد في تسجيل بالصوت والصورة".
*
كان هناك ثلاثة شبان بين الجمهور المتابع لما يحدث عن قرب. صرخ أحدهم فجأة: "اقبضوا على سارق الخزنة"، وتقدم إلى الأمام مع رفيقيه الشابين الآخرين".
مدت نور ذراعيها لتمنعهم من الاقتراب من كريم صارخة في وجوههم: "مكانكم! لا تقتربوا".
قال أحدهم: "نريد الانتقام لك".
ردت نور: "أنا لا أريد الانتقام من أحد. أريد رد الاعتبار لأبي".
انتبه سيف حارس كريم لما يحدث فأخرج مسدسه فجأة وأطلق النار في الهواء فأصاب أحد المصابيح الكهربائية المعلقة فانفجر محدثا هلعا شديدا في القاعة ثم وجه سلاحه إلى الشباب الثلاثة فتراجعوا، كانت مكبرات الصوت ما زالت تنقل المحاورة.
حدثت جلبة ولغط في القاعة. وصرخت بعض النساء فزعا واتجه بعض الحاضرين إلى باب الخروج، قال المذيع: "هناك من يطلق النار، تحول العرس فجأة إلى..."
صرخ المحامي: "اقطع الإرسال فورا".
انقطع الإرسال وظهرت على الشاشات نقط بيضاء وسوداء، وعنف المحامي سيف بقوله: "هل جننت؟ أعد المسدس إلى جيبك".
كشّر سيف وصرخ بصوت خشن وبلهجة سوقية: "لن أسمح لأحد بإيذاء السيد كريم".
طمأنه عامر بقوله: "لا تخف على السيد كريم فلن يقترب منه أحد".
وضع سيف المسدس في غمده. وبقي متحفزاً ينظر إلى من حوله بحذر ويده على المسدس.
*
ساد الهدوء القاعة وعاد إليها بعض من خرجوا منها. سألت نور بوعلام الوناس: "لماذا فعلت هذا؟"
أجابها بمرارة: "فعلت ما يجب أن أفعله منذ زمن، قاسيت عشر سنوات من عذاب الضمير وفقدت أعصابي حين أنكر أنه سرق الخزنة وأراد أن يدعي عليك أيضا".
اقترب لطفي بولعيون من نور وقال لها: "سامحيني يا ابنتي. كنت في البداية متأكداً من براءة أبيك، لكن هذا الشيطان استطاع تحويل مجرى التحقيق، لم يكن لي يد في مصادرة أموال أبيك وطردكما من الفيلا، شركة التأمين هي التي فعلت ذلك. قضيت شهرين في عطلة الصيف مع عائلتي في تونس وحين عدت فوجئت بما حدث. كنت مشغولا بمصيبتي فقد وضعت في الخزنة مبلغ مائتي ألف أورو وهي كل ما جمعته وربحته في حياتي. وثقت بأبيك أكثر من ثقتي بالبنك. وهذا المبلغ لم تعوضه شركة التأمين لأنني لم أصرح به فهو مخالف للقانون، أرجو أن تسامحيني يا ابنتي".
تنهدت وأجابته: "لا دخل لك يا سيدي فيما حدث. فقد حبك هذا الشيطان خطته بعناية في سرقة الخزنة واتهام أبي".
كان بوعلام الوناس يستمع فاقترب من نور وأحنى رأسه قائلا بلهجة منكسرة: "أنا أعلم أنني لا أستحق أن تسامحيني ولا أن تنظري في وجهي، فأنا شاركت في السرقة، وأقسم لك أنني لم أكن أعلم أن الأذى سوف يصيبك ويصيب أسرتك، وحين علمت خفت إذا تكلمت أن أسجن وأن تشرد عائلتي".
ربتت نور على ظهره وقالت له: "لا عليك، المهم أن ضميرك استيقظ وحاولت إصلاح غلطتك".
- هل أطمع في أن تسامحيني؟
- سامحنا الله جميعا.
*
تابع التاجر الكبير والإطار الهام ما يجري على إحدى الشاشات القريبة. همس الإطار الهام في أذن التاجر الكبير: "الآن فهمت سبب ثروة هذا الرجل. سرق الخزنة وأوهمنا أنه كون ثروته بالاستثمار في أستراليا".
علق التاجر الكبير بقوله: "لا عجب إن أنفق بسخاء من أموال السرقة، فهو لم يتعب ولم يعرق بجمعها كما نتعب نحن ونعرق".
*
قال إمام المسجد في سره: "من فضل الله عليّ أنني لم أطلب منه دفع زكاة أمواله، فزكاة المال الحرام باطلة".
*
كانت المرأة التي طلبت من زوجها أن يخبر زوج نور بأن أباها سرق الخزنة، أول الهاربات من القاعة عند سماع صوت الرصاص، وظل زوجها يتناول الحلوى ويشرب العصير، غير مبال بما يحدث، وحين عادت إلى القاعة بعد أن عمّ الهدوء فيها، قال لها زوجها: "ها قد ظهر الحق وثبتت براءة والد نور. اذهبي لتهنئيها وتباركي لها".
أجابته بغيظ: "أهنئها وأبارك لها على ماذا؟ على حقدها وقلبها الأسود، لو كنت مكانها لطويت صفحة الماضي وسامحته".
هز الزوج رأسه وأجابها ساخرا: "قولي هذا لمن لا يعرفك".
*
كانت نعيمة واقفة غير بعيد عن كريم ونور تتابع ما يحدث بينهما بانفعال وقلق. أضاء وجهها ابتهاجا ببراءة والد صديقتها. لكن عباس فاجأها بقوله: "لقد أفسدت صديقتك بغبائها كل شيء".
سألته باستغراب: "ماذا تعني؟"
زفر زفرة حرّى وأجاب بمرارة: "كنت أخطط لمشروع مشترك مع الملياردير أصبح من خلاله من كبار الأثرياء، لكن نور رفست بقدمها أعظم نعمة أرسلها الله لها فحرمت نفسها وحرمتنا منها".
نظرت إليه بغيظ مكتوم، وتمنّت لو صرخت في وجهه: "أنت إنسان أناني بلا عواطف لا تفكر إلا في نفسك، لن أبقى معك لحظة واحدة بعد الآن"، لكنها تذكرت طفلها الرضيع الذي تركته مع أمها، وتذكرت أباها القاضي الذي لا يحب أن يسمع كلمة الطلاق خوفا على سمعته، فصمتت على مضض.
*
رقص قلب مختار فرحا لهذه الخاتمة. وأطلت البهجة من عينيه راسمة على وجهه ابتسامة مضيئة حارة تنبع من القلب، ها قد حانت له الفرصة مرة أخرى ليظفر بنور شريكة لحياته، لن يتردد هذه المرة وسوف يصارحها بحبه ولن يضيعها كما ضيعها في المرة الأولى.
*
قال الطبيب للمحامي بعد أن فحص كريم: "ليس هناك كسر في الذراع، مجرد رضوض في العضد. أعطيته منشطا وهو الآن بخير".
اقترب المحامي من نور قائلا: "لو أريتني القرص المضغوط لأقنعت كريم أن يدفع لك أضعاف ما أخذته شركة التأمين من أسرتك".
أجابت نور: "لن يستطيع المال أن يمحو عذابي وعذاب أمي وتشويه سمعة أبي، كان هدفي تحقيق العدالة وإعادة الاعتبار لأبي".
رد المحامي بأسى: "من أجل انتقامك الشخصي حرمت بلدك من عقل عبقري نادر كان سيسهم في تقدمها وتطورها".
علقت نور: "يبدو أن نظرتنا مختلفة إلى القيم، فأنت ترى أن التقدم والتطور أهم من العدالة، بينما أرى أن العدالة هي أساس التقدم والتطور".
لقراءة الفصل التالي انقر هنا: المحاكمة
لقراءة الفصل السابق انقر هنا: من سرق مجوهرات العطري؟
للاطلاع على فصول الرواية، انقر هنا: العرس المشهود
للاطلاع على الروايات الأخرى للكاتب انقر هنا: الرّوايـات